دعوته عليه السلام
دعا عليه السلام بعد قتل الإمام الحسين بن علي، وكان في الوقعة التي قتل فيها، وأصيب ذلك اليوم بثمان وسبعين نشابة التي استقرت في درعه، وأخرج عليه السلام بعدها إلى اليمن ودخل صنعاء، وأخذ عنه علماء اليمن.
قال الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام: ويحيى بن عبدالله بن الحسن القائم لله المحتسب، الصابر لله على الشدة والغضب.
وبعد دعائه اغتاله هارون الغوي، أخو موسى الذي تقدم، وقد كان أسلم على يديه ملك الترك، وغدر به هارون في قصة طويلة، واختلف كيف وقع قتله.
وجال في البلدان ودخل اليمن، وأقام في صنعاء شهوراً، وأخذوا عنه علماً كثيراً، ودخل بلاد السودان ووصل بلاد الترك، فتلقاه ملكها بأعظم ما يكون من الإكرام، وأسلم على يديه سراً ؛ لأن يحيى عليه السلام قال له: لا يقبل الله منك هذا إلا بالإسلام، قال: فإن أسلمت ظاهراً قتلني الترك، واستبدلوا بي، فأسلم سراً، وبث يحيى عليه السلام دعاته في الآفاق فجائته كتبهم ببيعة مائة ألف من المسلمين فيهم الفقهاء والعلماء، فقال يحيى: لا بد من الخروج إلا دار الإسلام فنهاه ملك الترك عن ذلك، فقال: إنهم يخدعونك فلا تغتر، قال يحيى: لا أستجيز فيما بيني وبين الله أن أقيم في بلاد الشرك ومعي مائة ألف مقاتل، فخرج إلى جبال الديلم.
وقال: إن للديلم معنا خرجة، فأرجو أن تكون معي، وهي لا شك كانت مع الناصر الأطروش عليه السلام، فلما استقر في بلاد الديلم وافاه من المائة سبعون رجلاً.(1/111)
وبلغ الخبر هارون الرشيد، فضاقت عليه الأرض برحبها، وقطع الخمر، ولبس الصوف وافترش اللبود، وأظهر العبادة، وجمع عسكراً عظيماً قائده الفضل بن يحيى البرمكي فيه خمسون ألف مرتزق غير الأتباع فيهم صناديد وقواد، وما استقل له الجيش إلا بخمسين ألف ألف دينار، وحملت معه أموال جليلة للنفقات من أموال المشرق التي بين يديه، وأمره أن يبذل لجستان ما انتهت إليه بغيته، وكذلك أوصاه أن يعرض على يحيى كل أمرٍ يحبه من أموال وقطائع وصيانة جانبه، واحترام شيعته وشيعة أهل بيته عليهم السلام، وأن يسكن من أرض الله حيث أحب، وقد كان هارون أودع الفضل كتاباً إلى يحيى إن امتنع عليه جستان فيه الأمان بأوثق ما يدخل تحت الإمكان، وبذل له من المال ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف - أي ثلاثة ملايين -، ومن القطائع ما أحب، وأن ينزله من البلاد ما شاء، وحيث شاء.(1/112)
كتابه عليه السلام الى هارون الملقب بالرشيد
فكتب يحيى إلى هارون جواب كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد فهمت كتابك وما عرضت عليَّ من الأمان أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعلها الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلاً، فاستعظمت الإستماع له فضلاً عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله، فاحبس عني أيها الإنسان مالك وإقطاعك، وقضاء حوائجي فقد أدبتني أدباً ناقصاً - يعني أمه عليه السلام -، وولدتني عاقاً، فوالله لو أن من قتل من أهل تُركاً وديالم على بعد أنسابهم مني وانقطاع رحمهم عني لوجبت علي نصرتهم والطلب بدمائهم، إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، الله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه، ومنتقماً من أعدائه.
وكيف لا أطلب بدمائهم، وأنام على ثأرهم والمقتول بالجوع والعطش والنكال، وضيق المحابس وثقل الأغلال، وترادف الأثقال، أبي عبدالله بن الحسن النفس الزكية، والهمة السنية، والديانة المرضية، والخشية والبقية، شيخ الفواطم، وسيد أبناء هاشم طراً، وأرفع أهل عصره قدراً، وأكرم أهل بلاد الله فعلاً، ثم يتلوه إخوته وبنو أبيه، ثم إخوتي وبنو عمومتي، نجوم السماء، وأوتاد الدنيا، وزينة الأرض، وأمان الخلق، ومعدن الحكمة، وينبوع العلم، وكهف المظلوم، ومأوى الملهوف، ما منهم أحد إلا من لو أقسم على الله لبر قسمه، فما أنس من الأشياء فلا أنسى مصارعهم، وما حل بهم من سوء مقدرتكم، ولؤم ظفركم، وعظيم إقدامكم، وقسوة قلوبكم، إذ جاوزتم قِتلة من كفر بالله إفراطاً، وعذاب من عاند الله إسرافاً، ومثله من جحد بالله عتواً.(1/113)
وكيف أنساه ما أذكره ليلاً إلا أقضَّ عليَّ مضجعي، وأقلقني عن موضعي، ولا نهاراً إلا أمرَّ علي عيشي، وقصر علي نفسي، حتى وددت أني أجد السبيل إلى الاستعانة بالسباع عليكم، فضلاً عن الناس، وآخذ منكم حق الله الذي وجب عليكم، وأنتصر من ظالمكم، وأشفي غليل صدرٍ قد كثرت بلابله، وأسكن قلباً جم وساوسه من المؤمنين، وأذهب غيض قلوبهم ولو يوماً واحداً، ثم يقضي الله فيَّ ما أحب.
وإن أعش فمدرك ثأري داعياً إلى الله سبحانه على سبيل رشاد أنا ومن اتبعني، نسلك قصد من سلف من آبائه وإخوتي وإخواني القائمين بالقسط، الدعاة إلى الحق، فإن أمت فعلى سنن ما ماتوا غير راهب لمصرعهم، ولا راغب عن مذهبهم، فلي بهم أسوة حسنة، وقدوة هادية، فأول قدوتي منهم أمير المؤمنين رضوان الله عليه، إذ كان ما زال قائماً وقت القيام مع الإمكان حتماً، والنهوض بمجاهدة الجبارين فرضاً، فاعترض عليه من كان كالظلف من الخلف، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت، فظاهرهم من أعداء الله مثل من ظاهرك، وهم لمكان الحق عارفون، ولمواضع الرشد عالمون.
فباعوا عظيم أجر الآخرة بحقير عاجل الدنيا، ولذيذ الصدق بغليظ مرارة الإفك، ولو شاء أمير المؤمنين لهدأت له، وركنت إليه ؛ بمحاباة الظالمين، واتخاذ المضلين، وموالاة المارقين، ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذاً، ولا للظالمين موالياً، ولم يكن أمره عندهم مشكلاً، فبدلوا نعمة الله كفراً، واتخذوا آيات الله هزواً، وأنكروا كرامة الله، وجحدوا فضيلة الله لنا.(1/114)
فقال رابعهم: أنى يكون له الخلافة والنبوة حسداً وبغياً، فقديماً ما حسد النبيون وآل النبيين الذين اختصهم الله بمثل ما اختصنا، فأخذ عليهم تبارك وتعالى، فقال: ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا? [النساء:54].
فجمع الله لهم المكارم والفضائل، والكتاب والحكمة والنبوة، والملك العظيم، فلما أبوا إلا تمادياً في الغي، وإصراراً على الضلال، جاهدهم أمير المؤمنين حتى لقي الله شهيداً رضوان الله عليه.
ثم تلاه الحسن سليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشبيهه، وسيد شباب أهل الجنة، إذ كل أهلها سادة، فكيف بسيد السادة، فجاهد من كان أمير المؤمنين جاهده، حتى كان بالمدائن وثب عليه أخو أسد فوجاه في فخذه، فسقط لما به، وأيس الناس من إفاقته، فتبددوا شيعاً، وتفرقوا قطعاً.
فلما قصرت طاقته، وعجزت قوته، وخذله أعوانه، سالم هو وأخوه معذورين مظلومين موتورين، فاسثقل اللعين ابن اللعين حياتهما، واستطال مدتهما، فاحتال بالاغتيال لابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نال مراده، وظفر بقتله، فمضى مسموماً شهيداً، مظلوماً وقيذاً، وعبر شقيقه وأخوه وابن أمه وأبيه وشريكه في فضله، ونظيره في سؤدده، على مثل ما انقرض عليه أبوه وأخوه، حتى إذا ظن أن قد أمكنته محبة الله من بوارهم، ونصرة الله من اجترامهم، دافعه عنها أبناء الدنيا، واستفرح بها أبناء الطلقاء، فبعداً للقوم الظالمين، وسحقاً لمن آثر على سليل النبيين الخبيث ابن الخبيثين، فقتلوه ومنعوه ماء الفرات، وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله وقتلوهم ظلماً، يناشدونهم فلا يجابون، ويستعطفونهم فلا يرحمون، ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقرباً إليه، فبعداً للقوم الظالمين.(1/115)