وخرج في عصابة من آل محمد، وهم ستة وعشرون رجلاً، وتوافوا هم وشيعتهم إلى ثلاثمائة وبعض عشرة عدة أهل بدر، سالين سيوفهم، داعي إلى الله، عاملين بكتاب الله، مواجهين لأعداء الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، والتقاهم من أحزاب الضلال وجموع الباطل: أربعون ألفاً أنفذهم موسى الملقب الهادي بن محمد بن أبي الدوانيق، فدعاهم الإمام، ومن معه من جنود الله إلى كتاب الله، وإلى ما جاء به جده رسول الله، فلم يجيبوهم، فحمل فيهم الإمام، وحملت معه الطائفة على ما جرت به عادة الأئمة من أهل بيت رسول الله حتى أغرقوا الأرض من دمائهم، واستشهدوا في سبيل الله رب العالمين.
قال بعض من شهد الوقعة: إنه رأى الإمام وقد تنحى عنهم، وهم في أشد القتال، فدفن في الأرض شيئاً، فظنه شيئاً نفيساً، فلما انقضى القتال، وقتل الإمام ومن معه رجع إلى الموضع الذي رأى الإمام دفن فيه، فوجده قطعة من جبين الإمام صلوات الله عليه.
وكان الموضع الذي قتل فيه معروفاً عند أهل البيت، مرَّ منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى فيه، فلما كان في الركعة الثانية بكى، فبكى الناس، فلما أتم صلاته، قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لما رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله، قال: نزل عليَّ جبريل - لما صليت الركعة الأولى - فقال: (يا محمد إن رجلاً من ولدك يقتل في هذا المكان، وأجر الشهيد معه أجر شهيدين) رواه في الشافي.
ومر جعفر الصادق من فخ، وصلى فيه، وقال: يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة، تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة.
قال الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام: ومثل الحسين بن علي الشهيد المحرم المجرِّد لله سبحانه المصمم الباذل نفسه لله في عصابة قليلة من المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويَضرِبُون ويُضرَبُون حتى لقوا الله على ذلك، وقد رضي الله عنهم، وقبل فعلهم، فرحمة الله وبركاته عليهم.(1/101)


وقتل - وهو محرم هو وأصحابه - وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وقتل معه من أهل البيت سليمان بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وغيرهم.(1/102)


كلام الحسين عليه السلام حين لقيتهم الجيوش
قال الحسن بن عبد الواحد: حدثني أحمد بن كثير، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: سمعت الحسين ليلة الجمعة حين لقينا أصحاب يقطين فابتدأ الحسين في كلامه هذا حين لقيناهم وهو على حمار إدريس، والناس منصتون له، فقال: (يا أهل القرآن والله إن خصلتين أدناهما الجنة لشريفتان، وإن يبقيكم الله ويظفركم لنعملن بكتاب الله وسنة نبيه، ولتشبعن الأرملة، وليعيشن اليتيم، ولنعزَّن من أعزه كتاب الله وأولياءه، ولنذلن من أذله الحق والحكم من أعدائه، وإن تكن الخصلة الأخرى، فأنتم تبعاً لسلفكم الصالح، تقدمون عليهم وأنتم داعون إليهم: رسول الله وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد، وعبدالله بن الحسن، ومحمد وإبراهيم ابنا عبدالله، فمن أي الخطتين تجزءون فوالله إن لم أجد غيري لحاكمتهم إلى الله حتى ألحق سيفي).(1/103)


وقد حدثني أيضاً أحمد بن حمزة الرازي، قال: حدثنا أحمد بن رشيد عن سعيد بن خثيم الهلالي قال: كنت مع الحسين صلوات الله عليه فاجتمعنا إليه قبل اللقاء فقام فينا خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا إخوتي ويا أخواتي ويا شيعة جدي وشيعة أبي، ومحبي جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد تبين لكم ظلم هؤلاء القوم وفسقهم وفجورهم وعداوتهم لله ولرسوله، وسيرتهم في أمة محمد، وارتكابهم المحارم، وتعطيلهم الحدود، وشربهم الخمور، وارتكابهم الشرور، وهتكهم الستور، واستئثارهم بالفي، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، دعاهم الشيطان فأجابوه، واستصرخهم فاتبعوه يسيرون فيكم بسيرة القياصرة والأكاسرة، يقتلون خياركم، ويستذلون فقهاءكم، يقضون بالهوى، ويحكمون بالرشا، ويولون السفهاء، ويظاهرون أهل الريب والردى، يقلون أمر المسلمين اليهود والنصارى، جبابرة عتاة، يلبسون الحرير، وينكحون الذكور، فكيف لا يغضب أولوا النهى أم كيف يسيغ الطعام لأهل البر والتقوى، قد درس الكتاب فأول على غير تأويله، وغنيَّ به على المعازف فحرف عن تنزيله، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، فلو أن مؤمناً تقطعت نفسه قطعاً أما كان ذلك لله رضاً، بل كان بذلك عندي جدير، اخرجوا بنا إلى الله واصطبروا فوالله إن الراحة منهم ومن المقام معهم في دارهم لراحة، والجهاد عليكم فريضة، فقاتلوهم، الله قد فرض عليكم جهادهم، واصبروا أنفسكم فإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وكونوا ممن أحب الله والدار الآخرة، وباين أعداءه [وأحب] وآثر لقاءءه. عصمنا الله وإياكم.(1/104)


وحدثني هارون الوشاء، قال: حدثني عبد العزيز بن يحيى الكنائي، ويقال: إنه كان من الدعاة إلى يحيى بن عبدالله، قال: لما صار الحسين بفخ خرج يحيى على فرسه يحرض الناس، فقال - بعدما حمد الله -: أبشروا معشر من حضر من المسلمين، فإنكم أنصار الله وأنصار كتابه وأنصار رسوله، وأعوان الحق، وخيار أهل الأرض، وعلى ملة الإسلام ومنهاجه الذي اختاره لأنبيائه المرسلين، وأوليائه الصابرين، أوما سمعتم الله يقول: ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ?..إلى قوله: ?وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? [التوبة:111-112].
ثم قال: والله ما أعرف على ظهر الأرض أحداً سواكم إلا من كان على مثل رأيكم حالت بينكم وبينه المعاذير، إما فقير لا يقدر على ما يحتمل به إلينا، فهو يدعو الله في آناء ليله ونهاره، أو غنياً ببعدت داره منا، فلم تدركه دعوتنا، أو محبوس عند الفسقة وقلبُه عندنا ممن أرجو أن يكون ممن وفى لله بما اشترى منه، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من قد أقبل إلى ذرية نبيهم ليسوا ذراريهم، ويجتاحوا أنفسهم.
ثم قال: اللهم احكم بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الحاكمين، قال: فبرز للقتال ووجه إليه موسى بن عمر وإلى جميع أصحابه يعرض عليهم الأمان، فقال الحسين: وأي أمان لكم يا فجرة، المغرور من غررتموه بأمانكم وكيف وأنتم تغرونه عن دينه بحياة يسيرة تطمعونه فيها، فإذا ركن إليها قتلتموه، أليس من وصية آبائكم زعمتم قتل كل منهم ومن سأل الأمان عند الظفر به، فخرج إليه جميع من حضر من بني العباس ومواليهم والجند وتقطعوا آخر أمرهم ثم ليسوا إلا فيه وبعثوا إليه بأمانه، وبذلوا له مالاً فأبى إلا قتالهم أو الرجوع عما هم عليه من الإثم والعدوان، ومعاونة الظالمين.
قال: فشدوا عليه عندما يئسوا من خديعته بأمانهم وحملوا عليه وعلى أصحابه حملة شديدة، فثبتوا لهم، وقتل منهم جماعة.(1/105)

21 / 101
ع
En
A+
A-