مدة ظهوره ونبذ من سيرته، ووقت موته، وموضع قبره
تسلم الأمر من أخيه المرتضى رضي اللّه عنهما في صفر سنة إحدى وثلثمائة، وقام بالدعوة وبايعه النَّاس، فكان أول من بايعه (خولان)، فساس الأمور أحسن سياسة، وجرى على طريقة أبيه في بث العدل والنَّصفة، وأجرى الأمور على سَنَن الاستقامة، وقصر همه على الإيقاع بالقرامطة التي كانت مستولية على نواحي اليمن، فحارب جماعتهم وبدد شملهم ، فكانت آخر وقائعه معهم الوقعة المشهورة التي استأصلهم فيها، فستأمن إليه جماعة منهم وتابوا وانهزم الباقون إلى ناحية الغرب.
وتوفي رضي اللّه عنه سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وكانت مدة ظهوره نحو ثلاث عشرة سنة، ودفن بصعدة حرسها اللّه إلى جنب أبيه وأخيه، وولاة الأمر بصعدة حرسها اللّه إلى يومنا هذا هم أولاده.(1/131)
الإمام المهدي لدين اللّه محمد بن الحسن الداعي
هو: أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
أمه: خُرْخُر بنت فيروز الديلمي.(1/132)
صفته رضي اللّه عنه ونُبَذٌ من سيرته قبل ظهوره
نشأ رضي اللّه عنه من حين صباه على الزهد والورع والاشتغال بالعلم والرغبة فيه، ولم يتدنس بشيء من المناكير التي يَتَسَمَّجُ بها كثير من الشباب.
وحدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه أنَّه رضي اللّه عنه في أول ما اشتغل بالعلم ابتدأ بالاختلاف إليه رحمه اللّه وهو إذ ذاك شاب أيضا، فكان يتلقن منه الفرائض والوصايا.
ثم خرج إلى فارس فأكرمه عِمَادُ الدولة: علي بن بويه، وعرف له مكانه من الأبوَّة والفضل في نفسه، فإن عماد الدولة كان أحد قواد الداعي.
ثم انتقل إلى بغداد في أيام مُعِزّ الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه، فزاد في إعظامه وإكباره والرفع في محله، وكان هو وأخوه رُكْنُ الدولة من خواص الداعي رضي اللّه عنه، وسوَّغه الأقطاع الكثير السَّنِي، فكان رضي اللّه عنه إما أن يشتري ما يجعل في إقطاعه من الضياع إن أمكن إبتياعه، أو يستأجره من أربابه.
وكان يختلف إلى أبي الحسن الكرخي في أيامه ويلزم مجلسه ويدرس عليه فقه أبي حنيفة، فبلغ في حفظ مسائل العراقيين المبلغ الذي يضرب المثل به.
سمعت كافي الكفاه نفعه اللّه بصالح علمه يذكر: أنَّه لقيه ببغداد، وأنه كان يحضر داره كثيراً وأنه أول ما لقي شيخنا أبا عبد اللّه البصري لقيه في داره، قال: فكنا نجرب حفظه لفقه أبي حنيفة بأن نكتب له مسائل غامضة ننتجها من الكتب، وكان يقترح علينا أن نفعل ذلك، فكان ينظر فيها ويكتب أجوبتها تحتها فلا يغلط في شيء منها على المذهب.
وحكى القاضي أبو محمد عبد اللّه بن محمد الأسدي المعروف بابن الأكفاني، قال: كنا يوما في مجلس أبي الحسن [الكرخي] وأبو عبد اللّه بن الداعي رضي اللّه عنه حاضر على عادته، فلما فرغ أبو الحسن من التدريس قام وخرج من المسجد، وتبعه أبو عبد اللّه بن الداعي، فلما خرج من المسجد التفت فرآه، فقال له: أيها الشريف لولا أن الخروج من المسجد لا فَضِيلَة فيه لكنت لا أتقدم عليك فيه.(1/133)
وحكى لي مشائخنا ببغداد، وأظن أني سمعت هذه الحكاية من كافي الكفاه، وهي أن أبا الحسن لما مات حضر أبو عبد اللّه بن الداعي رضي اللّه عنه جنازته، وحضرها أبو تمام الزينبي وهو نقيب العباسيين، فكان شيخنا أبو عبد اللّه [البصري] يحب أن يصلي عليه أبو عبد اللّه بن الداعي، وأبو بكر الدامغاني ـ وهو من متقدمي أصحاب أبي الحسن وحفاظهم، وكان أبو الحسن حين غلبت عليه الرُّطوبة في آخر أيامه وثقل لسانه وانقطع عن التدريس استنابه للفتيا عنه ـ كان يميل إلى أن يصلي عليه أبو تمام الزينبي؛ لأنه كان يختص به كما يختص شيخنا أبو عبد اللّه [البصري] بأبي عبد اللّه بن الداعي رضي اللّه عنه، فحين وضعت الجنازة، إحتال أبو بكر هذا بأن تَقَدَّم إلى بين يدي أبي عبد اللّه بن الداعي، فقال: أيها السيد أنت أحق النَّاس بالتقدم، ولا يجوز أن يتقدم عليك أحد وقد حضرتَ، ولكنك تعلم أن مثل هذا الشيخ يُقَبِّح أن يصلَّى عليه علىخلاف مذهبه، وقد علمت أن مذهبه أنَّ تكبير الجنائز أربعاً، فإذا رأيت أن تكبر عليه أربعاً فافعل. فانتهره رضي اللّه عنه وقال: أنا لا أكبر إلا خمساً فمن شاء فليتقدم، فحينئذ تقدم أبو تمام وصلى عليه.
ثم اختلف رضي اللّه عنه إلى شيخنا أبي عبد اللّه [البصري] وكان يواظب على حضور مجلسه، وقرأ عليه أكثر كتب أصحابنا في الكلام وعلّق.
وحدثني أبو العباس العماري الطبري قال: كنت أراعيه رضي اللّه عنه خمس عشرة سنة وهو يُنْصَب له في داره في كل صيفة خَيْشٌ على عادة بغداد، فتمر تلك الصيفة ولا يكون قد دخله، وكان السبب في ذلك أنَّه يبكر ويركب إلى مجلس أبي عبد اللّه البصري، ويعود قريباً من نصف النهار وقد اشتد الحَرُّ فلا يتمكن من دخول الخيش لأنَّ من دخل الخيش؛ ببغداد وقد حمي بدنه وأصابه الحَرّ يزكم في الحال، فلم يدخل الخيش خمس عشرة سنة حِرصاً على العلم!!(1/134)
وحدثني شيخنا أبو عبد اللّه البصري قال: كنت أملي: (نقض الموجز) لابن أبي بشر الأشعري، فكان رضي اللّه عنه يستملي ذلك بنفسه ويكتبه مع سائر أصحابنا، وكان يحتاج إلى أن يكتب في كل يوم نحو ثلاثين ورقة وأقل وأكثر من أثمان المنصوري، فكنت أنا أتامله وهو يكتب ذلك وقد عَرِق من شدة الحر، وتعب تعباً شديداً، وهو شيخ و إلى السِّمَن ما هو، فقلت له: أيها السيد، هذا يتعب نفسك فيما تكتبه أنت، وهذا لا فضل فيه بين أن تكتبه أنت، وبين أن يكتبه غيرك. فقال لي: أحب أن لا أتأخر عن أصحابنا في الاستملاء كما لا أتأخر عنهم في الدرس.
وتقدم في علم الكلام تقدماً عظيماً، وجمع بين الكلام والفقه، وصدر كثير من الأدب، وقد كان قراء على أبي عمر غلام ثعلب كثيراً من الأدب، ورأيت في كتبه رضي اللّه عنه ذكر سماعاته منه.
وكان أبو عبد اللّه البصري يحضر داره كثيرا ويبيت فيها ويلقنه المسائل، وربما يملي عليه التعاليق ويكرر ما جرى له من الدرس، وكان يفعل هذا لأغراض، منها: التَّبَجُّح بأن يكون مثله من أصحابه، ويتخرج بتعلُّمه منه ويَنْتَسِب إليه.
ومنها: الاستظهار بمكانة والاعتصام بِجَنْبَتِهِ من قصد طبقات المخالفين له، حتى لم يتمكنوا ـ مع كثرتهم وإطباقهم على عداوته اعتقاداً وحسداً ـ من شيء مما كانوا يحاولونه من التأثير في أمره.(1/135)