وكان ليلى بن النعمان قدمه النَّاصر عليه السلام إلى ناحية جرجان مع عسكر كثيف، فاتصل الخبر به، وهو بسارية، فانصرف بجيشه ودخل على الداعي في مضربه، وقال: ماذا صنعت بأبينا؟ ـ يعني الناصر ـ، أهذا حقه عليك وعلى الجماعة؟ فقال: إنَّه لم يُفْرِج عن المال، ولم يطعم العساكر ما لابد لهم منه من الخبز. فقال له: والأب إذا لم يطعم الخبز يُحبَس؟! ثم ركب وعدل برايته إلى جانب وصاح: من كان متبعا للحق ومريداً له فليعدل إلى هذه الراية. وقد كان أصحاب الداعي قد ندموا على ما بدر منهم، إلا عدداً يسيراً هم خواصُّه، فعدل الجيش كلهم إليه إلا هذه الطائفة ففزع الداعي حينئذ، فقال له: هات خاتمك. فأخرجه من يده وسلمه إليه، فأنفذه للوقت مع جماعة من الثقات لإخراجه من القلعة ورده، وهرب الداعي في الوقت مع نَفَرٍ من خواصّه إلى الديلم.
وحدثني أبي رحمه اللّه بهذه الجملة، وحدثني بأنه شاهده عليه السلام حين رُدَّ من القلعة يوم دخوله آمل، وقد استقبله أكثر أهل البلد صغيرهم وكبيرهم، وكان على بغلة، فكاد النَّاس يقلعون بغلته من الأرض لازدحامهم عليه وخدمتهم له. ورأيته وهو يدفع النَّاس عن نفسه بطرف مقرعته إذا تكابسوا عليه تمسحا به وتقبيلا لرجله حتى كادوا يزيلونه عن المركوب، يشير بها وينحِّيهم عنه.
وحصل الداعي بالديلم. فلما حانت وفاته عليه السلام [يعني الناصر]، استُؤْمِرَ فيَ من يقيمونه مقامه إذا حدث به قضاء اللّه عز وجل، وسأله بعضهم وهو: وهري بن شهريار، أن يعهد إلى بعض أولاده، فقال عليه السلام: وددت أن يكون فيهم من يصلح لذلك، ولكن لا أستحل فيما بيني وبين اللّه عز وجل أن أولِّيَ أحداً منهم أمر المسلمين!! ثم قال: الحسن بن القاسم أحق بالقيام بهذا الأمر من أولادي وأصلح له منهم فَرُدُّوه!! ولم يمنعه ما كان أسلفه عنده من إيثار الحق في المشورة به.(1/121)
وقد كان نفر عنه الداعي رضي اللّه عنه قبل هذه الكائنة مرة أخرى وخرج إلى الديلم، ثم توسط المشائخ والأشراف والفقهاء بينهما وعقدوا الصلح وردوه إليه.
فسمعت أبي رحمه اللّه يحكي عن عبد اللّه بن أحمد بن سلام رحمه اللّه، أنَّه قال: أردنا عقيب هذا الصلح أن نتوصل إلى تلقيب الداعي رضي اللّه عنه، فقلنا للناصر: إن أبا محمد قد شاع في النَّاس استيحاش الناصر منه، فينبغي أن تنعته بنعت وترسم له لقبا يرفع به عنه، قال: ففطن لما نريده ولم يكن ممن يذهب عليه مثل هذه الأغراض وتتمكن من مخادعته، فقال: لقبوه بالتائب إلى اللّه، فقلنا أيها الناصر نريد غير هذا، فقال: فالراجع إلى الحق، فقلنا: لا. فلم نزل به حتى تنجَّزنا منه تلقيبه بالداعي إلى اللّه.(1/122)
[عودة إلى أخبار الناصر]
واتصل به رضي اللّه عنه ما عزم عليه أحمد بن إسماعيل والي خراسان من بروزه من بخارى بجيشه وقضّه وقضيضه قاصداً طبرستان، ومتوجها إلى حربه وإظهاره أنَّه يخربها ولا يبقي بالديلم شجرة إلا قلعها لما جرى على عسكره، واشتغل قلبه [أي الناصر] وقلوب أوليائه بذلك اشتغالا عظيما.
فلما كان يوم من الأيام خرج إلى مجلسه، وقال: قد كفيتم أمر هذا الرجل، فقد وجهتُ إليه جيشا يُكتفى بهم في دفعه، فقالوا له: أيها الإمام ومن أين هذا الجيش، ومتى انفذتهم؟! فقال صليت البارحة ركعتين ودعوت اللّه عليه! فلما كان بعد أيام ورد الخبر بأن غلمانه قتلوه، وكُفِيَ رضي اللّه عنه أمره. هذه حكاية معروفة مشهورة، قد حدثني بها غير واحد من الثقات.
وله رضي اللّه عنه أشعار كثيرة، ومما قاله عند دخوله الديلم وشروعه في الدعوة هذه الأبيات:
ولما أُصبنا بشيخِ العشيرةِ .... وابن عُلاها ومَنَّانِها
وآسفنا مِلْ عِدَا مؤسفٌ .... من اغْتامِ عِلْجِ خُراسانِها
نَصبنا لهم مِدْرَهاً في الخُطُوب .... طَبّاً بها قبل حِدْثانها
حُلاحله يستدين الرجال .... ويَقضي فوادح أَديانها
فلما تَبَيَّن أسبابه .... وأبصر فَرْصَة إمكانها
نحا جَبَلَ الديلمين المُنيف .... يدعو إلى اللّه رحمانها
فساعد منهم بها عُصْبَةٌ .... كأسد العرين بِخِفَّانها
ولا هج جاءت ومرقالها .... تَزجي المنايا بفرسانها
وأقبل يزقل في جمعة .... بنُخْبَةِ فتيان جيلانها
وليلى أَجابَ ولم ينتظر .... وثار بأصحاب نُعمانها
ونلْنا المُنَى بأبي جعفر .... وفارسها ليث شبانها
فسالت عساكرنا كالأتِيِّ .... يضيق بها رحب قيعانِها
وقال أيضا:
وجستان أعطى مواثيقه .... وأَيمانَه طائعاً في الحَفَل
وليس يُظَنُّ به في الأمور .... غير الوفاء بما قد بذل
وإني لآمُل بالديلمَيْنِ .... حروباً كبدرٍ ويومِ الجَمَل(1/123)
وله من قصيدة أولها:
لَهفان جَمُّ وساوس الفِكْرِ .... بين الغِيَاضِ فساحل البحر
يدعو العبادَ لِرشدهم وكأن .... ضُربوا على الآذانِ بالوَقْرِ
مترادف الأحزان ذو جُزَع .... مُرٍ مذاقتهن كالصبر
متنفس كالكير ألهبَه .... نفخ القَيُون وواقد الجَمْرِ
أضحى العدوُّ عليه مجتهدا .... ووليُّه متخاذل النصر
متَبَرِّم بحياته قَلِق .... قد مل صحبة أهلِ ذا الدهر
وله أيضا:
شيخ شرى مهجته بالجنة .... واستن ما كان أبوه سنه
ولم يزل علم الكتاب فَنَّه .... يجاهد الكفار والأظنَّه
بالمشرفيات والأسنه
وتوفي عليه السلام بآمل في شهر شعبان سنة أربع وثلاثمائة، وله أربع وسبعون سنة، وقيل أكثر من ذلك، وليس بصحيح، وكان من آخر شعره، قصيدة أولها:
أناف على السبعين ذَا الحولَ رابعُ .... ولا بُدَّ لي أني إلى اللّه راجع
ويقول فيها:
وصرت أبا جدٍ تقومني العصا .... أدُبُّ كأني كلما قمت راكع
وكانت مدة ظهوره بآمل ثلاث سنين وأشهراً، ودفن بها ومشهده معروف مزور.
وورد الداعي رضي اللّه عنه آمل في شهر رمضان يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت منه، فبدأ بقبر الناصر عليه السلام ومعه أولاده [يعني أولاد الناصر] أبو الحسن وأبو القاسم وأبو الحسين، فألصق خده بالقبر وهو يبكي، فقام أبو الحسن ابن الناصر وانشدا قصيدة في مرثيته، أولها:
أيحسن بي أن لا أموت ولا أظنى .... وقد فقَدَتْ عيناي من حَسَنٍ حُسناً
وقصيدة أخرى أولها:
دمُ الجوف يجري في الحشا متَصَعِّداً .... فَيَنْهلُّ دمعا صافيا مَتِبدِّداً(1/124)
[بيعة الإمام الداعي وشيء من أخباره]
وبويع للداعي رضي اللّه عنه في ثانية، هو يوم الأربعاء من شهر رمضان، فأظهر من حسن السيرة في الأمور كلها من بسط العدل والإحسان إلى الأشراف وأهل العلم على طبقاتهم وتسويغ خراجهم، والتشدد على أهل العَبَث والفساد ما يضرب به المثل إلى الآن بطبرستان، فيقال: عدل الداعي، وكانت له حروب مشهورة ووقائع معروفة مع ولدي الناصر للحق عليه السلام، ومع المسودة الخراسانية، وخطب له بنيسابور ونواحيها ليلى بن النعمان مدة، وخطب أيضا بالري ونواحيها أياماً، وبقي على أمره بعد الناصر للحق رضي اللّه عنه اثنتي عشرة سنة واشهرا، واستشهد سنة ست عشرة وثلثمائة في يوم الثلاثاء وقت العصر لثلاث بقين من شهر رمضان، وقد بلغ من عمره اثنتين وخمسين سنة رضي اللّه عنه والحقه بآبائه الطاهرين.(1/125)