وأقبل الناصر رضي اللّه عنه بعساكره من الجيل والديلم، ولم يكن لهم من آلات الحرب ما كان للخراسانية، والتقوا في موضع بين وارفوا وشالوس يعرف بـ(بورود) على ساحل البحر، ووقع القتال هناك، فأوقع رضي اللّه عنه بالخرسانية، ومنحه اللّه أكتافهم ونصره عليهم فانهزموا أقبح هزيمة، وقُتِلُوا شر قتلة، وبلغ عدد المقتولين نحو عشرين ألفا، بين مقتول بالسلاح وغريق في البحر، كانوا إذا أقبلوا إلى الظهر اخذتهم الرايات، وإذا ولَّوا واقتحموا البحر غرقوا، وتحصن منهم نحو خمسة آلاف رجل في قلعة شالوس مع أمير لهم يعرف بأبي الوفاء، واستأمنوه عليه السلام فأمَّنهم، وكان الظفر يوم الأحد في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثمائة.
ورحل بجيشه متوجها إلى آمل، وقد كان استقبله مشائخها وفقهاؤها وتُنَّاؤها وأماثلها إلى شالوس، وهم على فزع منه لِما كانوا أقدموا عليه، واعتذروا إليه من فعل عوامِّهم فقبل عذرهم، وقَرَّب الفقهاء منهم وأدنا مجلسهم وتوفر عليهم.
ورحل من هناك إلى آمل فدخلها سنة إحدى وثلاثمائة.
وكان الداعي الحسن بن القاسم رضي اللّه عنه صاحب جيشه، وكان قد تقدم في وقت القتال ، وبعد عنه متتبعا آثار المنهزمين، وجاوز شالوس، ثم عاد ليلحق بالناصر، فلما انتهى إلى قلعة شالوس رأى هؤلاء المستأمنين وقد نزلوا من القلعة، فسأل عنهم، فقيل: إن الناصر أمنَّهم، فقال: لم أسمع من الناصر ذلك ولم يصح عندي، وأمر بوضع الرايات فيهم فقتلوا عن آخرهم.
ولما دخل الناصر عليه السلام آمل إمتد إلى الجامع وصعد المنبر وخطب خطبة بليغة وعظ النَّاس فيها، ثم عَنَّف أهل البلد على ما كان منهم من مطابقتهم لأعدائه، ومعاونتهم وخروجهم عليه، ووبَّخهم، ثم عَرَّفهم أنَّه قد عفا عنهم وأضرب عن جنايتهم وأمَّن كبيرَهم وصغيرَهم، ثم نزل دار الإمارة التي كانت لمحمد بن زيد الداعي رحمه الله عليه.(1/116)


أولاده عليه السلام
أبو الحسن علي الأديب الشاعر، أمه أم علي بنت عمه، وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد، أمهما نقش، وكانت نقش هذه جارية أهدتها امرأة جستان إلى الناصر رضي اللّه عنه على ما حكى لي محمد بن وهسودان، وُيشبه أن يكون هذا أيام مقام جستان مع الناصر عليه السلام في جملة عسكر الداعيين، فقد كانا اجتمعا في ذلك الوقت وحصلت بينهما مودة وصداقة أكيدة.
وحَدَّثني محمد بن وهسودان أن امرأة جستان هذه كانت جَدَّته أم أبيه، وكانت إمرأة فصيحة بالعربية تقرأ وتكتب، وأنها وهبت للناصر عليه السلام جارية، فدخل إليها ابنه أبو الحسن فقال لها: يا أم علي لم لا تهبين لي جارية كما وهبت لأبي، فقالت له: إن هجوت ضُرَّتي وهبت لك جارية ـ وكانت ضرتها تسمَّى أمة العزيز ـ فهجاها أبو الحسن على البديهة بأبيات أنشدنيها محمد بن وهسودان أولها:
أمة العزيز شبيهة امرأة العزيز بفعلها
ولا أستجيز أن أذكر ما بعده. قال: فَوَهَبَتْ له جارية بديعة الجمال.
وأم الحسن، وهي: فاطمة، وأم محمد، ومباركة، وأم إبراهيم، وميمونة.(1/117)


بيعته عند دخوله آمل، ونبذ من سيرته، ومدة أيامه بعد دخولها ومبلغ عمره، وموضع قبره
لما دخل عليه السلام آمل بايعه فقهاؤها، ومشائخها، ومنهم من بايعه بـ (شالوس)، وتمكن من (طبرستان) كلها، من (شالوس) إلى (سارية)، وأعمالها، ومن الرويان وَ(كَلاّر) وما يتصل بها، ورتب العمال في هذه البلدان والنواحي، وولى القضاء زيد بن صالح الحسني.
وكان ينظر في الأمور بنفسه، وبَسَطَ العدل، ورفع رُسُوْمَ الجور، وعقد مجالس النظر، وكان الفقهاء يحضرونه ويكلمونه في المسائل ويكلمهم ويناظرهم.
ومن مَلِيْح نوادره فيما يتصل بهذا الباب: ما حدثني أبي رحمه اللّه، قال: كان رضي اللّه عنه محروراً شديد الحرارة تستولي عليه الحُمَّى إذا تكلم، فكان يوضع بين يديه كوز فيه ماء مُبَرَّد يتجرع منه في الوقت بعد الوقت إذا تكلم كثيراً وناظر في خلال مناظرته، وكان بـ(آمل) شيخ هِمٌّ من العراقيين يعرف بأبي عبد اللّه محمد بن عمرو، وكان يكلمه عليه السلام في مسألة فكان يترشش من فِيْهِ لعاب يصيب الكوز منه، كما يتفق مثله من المشائخ، فأخذ الناصر دفتراً كان بين يديه ووضعه على رأس الكوز، فاتفق أن هذا الشيخ وهو في هداره وحِدَّةِ مناظرته وَلِع بأخذ ذلك الدَّفتر عن رأس الكوز من غير قصد، ولكن كما يتفق من الإنسان أن يولع بشيء من ضجره واحتداده، وفعل ذلك مرتين، وكان الناصر يكلمه وكلما رفعه عن رأس الكوز أعاده إليه، فلما رفعه الرفعة الثالثة أعاده الناصر، ثم التفت إليه فقال: يا هذا ?وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِيْ العُقَدِ? [الفلق: 4].
وكان ربما يتطارش تطارشاً زايدا على ما به من الطَّرش يعرض له ولضرب من التطرف.(1/118)


فحدثني أبي رحمه اللّه قال: قام يوماً في مجلسه شاعرٌ لينشده قصيدة كان مدحه بها، فلما ابتدأ بالإنشاد أشار رضي اللّه عنه بيده إلى أذنه أني لا أسمع ما تنشده فلا فائدة لك في إنشاده، فتَضَرَّع إليه الرجل في أن يأذن في الإنشاد وسأل في بابه من حضر، فأومى إليه أن ينشده، فلما مَرَّ الرجل في قصيدته، انتهى في بيت أنشده إلى كلمةٍ لَحَن فيها، فلما أطلع الكلمة أومأ إليه وأشار بيده منبها على خطئه، فضحك النَّاس وقالوا: أيها الناصر ألم تظهر له أنك لا تسمع؟ فتبسم.
وكان إذا جلس في مجلسه يتصرف في مسائل الكلام والفقه ورواية الأخبار وإنشاد الأشعار للقدماء والمُحْدثين، والحكايات المفيدة.
وقد كان أبو عبد اللّه الوليدي القاضي يلزم مجلسه ويعلِّق جميع ما سمعه منه مما يتصل بجنس العلم والأدب، ويتعلق بضرب من الفائدة، وصنف فيه كتابا سماه (الفاظ الناصر) وهو كتاب معروف، من نظر فيه عرف من تفننه في وأنواع الفضل ما ذكرته.
وكان له مجلس للنظر، ومجلس لإملاء الحديث، وكان يركب إلى طرف البلد ويضرب بالصولجان للرياضة فإذا ركب اجتمع فقهاء البلد وأهل العلم كلهم إلى المصلى وجلسوا فيه، فإذا فرغ من ذلك عدل إليهم وجلس وأملى الحديث، وكان يحضر جنائز الأشراف وكبار الفقهاء بنفسه.
وحكى أبو عبد اللّه الوليدي أنَّه عليه السلام حضر معزى بعض الأشراف فلما سمع البكاء من داره، قال: من هذا الميت الذي يُبْكى عليه؟ مات حَتْفَ أنفه وعلى فراشه وبين أهله وعشيرته، وإنما الأسف على أولئك النفوس الطاهرة التي قُتِلَت تحت أديم السماء، وفُرِّق بين الأجساد والرؤس، وعلى الذين قتلوا في الحبوس وفي القيود والكبول، وخطب في هذا المعنى خطبة حسنة، ثم قال: آه آه في النفس حزازات لم يشفها قتلى بورود ـ يعني الخرسانية الذين قتلوا في ذلك المكان حين هزمهم وقد مر خبرهم ـ.(1/119)


[شيء من أخبار الإمام الداعي الحسن بن القاسم]
وكان الداعي الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام صاحب جيشه والمستولي على الأمر، لشهامته وحسن بلائه بين يديه، وورعه ودينه، ولأنه لم يكن في أولاده من يُعْتمَد للولاية، لأنَّ أبا الحسن كان مع فضله في الأدب على غير طريقة السداد، وكان الناصر رضي اللّه عنه معرضاً عنه منكراً عليه، وأبو القاسم وأبو الحسين كانا صغيرين، فلما ترعرعا كان يستعين بهما فيما يجوز أن يستعان فيه بمثلهما من الشباب، فينفذهما في بعض السرايا ويوليهما بعض الجيوش، ولما فتح آمل ودخلها وولَّى أبا القاسم سارية، ووقع بينه وبين الداعي تنافر ونزاع، وطال الخطب في ذلك.
ولما أوقع الناصر للحق عليه السلام وأنفذ على مقدمته إبنه أبا القاسم إلى آمل، وكان الداعي رضي اللّه عنه يطمع في أن يُختار للتقدم، فاستوحش من ذلك ولم يظهره، وكان هذا أول نُفُورِه عنه سراً، فقد كان منه رضي اللّه عنه أثر ظاهر جميل في تحمل المبارزة بنفسه والتقدم إلى حيث لم يتقدم أحد، وكان أصحاب الناصر الذين هم أهل الدِّين والورع، مثل أبي محمد عبد اللّه بن أحمد بن سلام رحمه اللّه ومن دونه يميلون إلى الداعي رضي اللّه عنه لدينه وورعه واستقامة طريقته، وينحرفون عن أولاد الناصر لسلوكهم لطريقة غير مرضية في الباطن.
واستوحش الداعي ونَفَر عن الناصر لمكان أولاده وقصدهم إياه، وأدى ذلك النِّفار إلى الهفوة التي اتفقت منه في القبض على الناصر وإنفاذه إلى قلعة اللارز، وقد ذكر من اعتذر عنه أنَّه كان كارها لما جرى، وأن الإقدام على ذلك بَدَر من سفهاء الجيل والديلم الذين كانوا وردوا في صحبة الداعي رضي اللّه عنه.(1/120)

24 / 30
ع
En
A+
A-