الإمام الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام
هو: أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وأمه: حبيب أم ولد مجلوبة من خراسان، ولد بالمدينة.(1/111)


صفته عليه السلام ونبذ من أحواله قبل ظهوره
كان عليه السلام طويل القامة، يضرب إلى الأدَمة، به طَرَش من ضربة أصابت أذنه في حادثة اتفقت عليه بنيسابور أو بناحية جرجان ـ فقد اختلف الرواة في ذلك ـ سنذكرها.
وكان جامعا لعلم القرآن والكلام والفقه والحديث والأدب والأخبار واللغة، جيد الشعر، مليح النوادر، مفيد المجلس، ناشئاً على الزهد والورع، مثابراً على العبادة، قد رأى مشائخ الكوفيين، وروى عنهم وعن غيرهم.
ورد طَبَرِسْتَان أيام الداعي الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وبقي عنده إلى أن توفي، ووُلِّي أخوه محمد بن زيد رضي اللّه عنه، فأقام معه، وكانا معظِّمين له عارفين بفضله وعلمه، ولم يكن يتلبس لهما بعمل ولا يلي من جهتهما شيأ، وربما كانا يفوضان إليه تَفْرِقة مال العلوية فيهم، فيفعل ذلك.
وقد كان فارق محمد بن زيد في وقت وخرج إلى نيسابور في أيام المعروف بمحمد بن عبد اللّه الجحستاني، طامعا في أن يتمكن بها من الدعاء إلى نفسه، فتوفر عليه الجحساني وأكرمه.
وشرع في الدعوة سراً، وأجابه كثير من قواده وغيرهم، وذكر بعض من صنف أخباره، أن ذلك في ناحية جُرْجَان لما وردها الجحستاني وانحاز عنها الحسن بن زيد، وأُحْوِج عليه السلام إلى الإقامة هناك، فسعى به بعض من كان وقف على أمره، فأخذه واعتقله وضربه بالسياط ضرباً عظيماً، ووقع سوط في أذنيه فأصابه منه طَرَشٌ، واستقصى عليه بأن يعترف بما كان منه، ويعرفه أسامي أصحابه، فثبت على الإنكار، ثم أفرج عنه، وقيل: إن محمد بن زيد كاتبه في معناه والتمس منه تخلية سبيله، فعاد إلى جرجان، وقيل: إنَّه تخلص بخروج الجحستاني من جرجان، وهذا قول من ذكر أن النكبة اتفقت عليه بناحية جرجان.(1/112)


وكان الجحستاني حين ضربه حبسه في بيت الشراب، وفيه زقاق فيها خمر، لأنه علم أنَّه يشتد عليه مقاربة موضع فيه خمر، فكان الناصر عليه السلام يقول: قويت برائحة الخمور. فقيل له: أيها الإمام لو أكرهت على شربها ما لذي كنت تصنع؟ فقال: كنت أنتفع بذلك، ويكون الوِزْرُ على المُكْرِه! وهذا من مليح نوادره ومزحه الذي لا يجاوز الحق.
وكان محمد بن زيد يتهمه بأنه منطوٍ على طلب الأمر والدعاء إلى نفسه، مستشعراً للفزع منه لمعرفته بعلمه وفضله، إلا أنَّه لا يعدل به عن طريقة الإكرام والاحتشام.
وحدثني محمد بن علي العبدكي قال: سمعت أبا القاسم عبد اللّه بن أحمد البلْخي يقول: كنت في مجلس الداعي محمد بن زيد بجرجان، وأبومسلم محمد بن بحر حاضر ، وكنا جميعا ممن يذب عن الناصر الحسن بن علي في تكذيب من ينسب إليه طلبه الأمر، فدخل [الناصر] والتفت إلى أبي مسلم. وقال: يا أبا مسلم من القائل:
وفتيان صدق كالأسنَّةِ عَرَّسوا .... على مثلها والليل تَرمي غَيَاهبُهْ
لأمرٍ عليهم أن يتم صُدُوره .... وليس عليهم أن تَتِمَّ عواقبُهْ
قال: فعلم أبو مسلم أنَّه قد أخطأ في إنشاد ذلك، لأنه يُستدل به على أنَّه معتقد للخروج وإظهار الدعوة، فأطرق كالخَجِل، وعلمت أنا مثل ما علمه فأطرقت، وفَطِنَ الناصر أيضا بخطئه فخجل وأطرق ساعة وانصرف، فلما انصرف التفت الداعي محمد بن زيد إلى أبي مسلم. فقال: يا أبا مسلم ما الذي أنشده أبو محمد، فقال أبو مسلم: أنشد أيها الداعي.
إذا نحن أُبْنا سالمين بأنفُسِ .... كرامٍ رجَتْ أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة أنها .... تؤبُ وفيها ماؤها وحياؤها
فقال الداعي محمد بن زيد: أو غير ذلك، إنَّه تتنسم رائحة الخلافة من جبينه.(1/113)


ولم يزل مع محمد بن زيد إلى أن قُتِلَ محمد رحمه الله عليه بجرجان، وقد كان حضر معه الوقعة وانهزم في جملة المنهزمين، وامتد إلى الري على طريق (الدامغان)، وحصل بها في دار محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر الحسني، واتصل بجستان ملك الديلم خبرُه، وكان بينهما مودة من أيام محمد بن زيد رحمه اللّه، فكاتبه وسأله الخروج إليه ليبايعه، ووعده بأنه يتوب ويقلع عن المعاصي ولا يخالفه في شيء، فامتنع أولاً، وكاتبه بأنه لا يثق بوعده، وليس يأمن أن لا يفي بما يعده به، فجلعه على ثقة من ذلك بأيمان بذلها.
فخرج إليه ومعه أولاده: إبنه الأكبر أبو الحسن علي الأديب الشاعر، وأبو القاسم، وأبو الحسين فأكرمه، إلا أنَّه خالف ما بذل به لسانه من ترك المعاصي، وتقديم أمره في الخروج، وكان يدافعه ويُمَنِّيه.
وطال مقامه إلى أن تهيأ له الخروج من عنده، فخرج إلى سهل الديلم وعرض الإسلام على من بقي منهم على الكفر، ثم خرج إلى جيلان وابتدأ يعرض الإسلام على الجيل الذين هم إلى جانب الديلم من طرف الوادي المعروف بـ(أسفنذروا) وهم كفار، فأسلموا كلهم على يديه وطهروا، وذلك في سنة سبع وثمانين ومائتين، بعد ظهور الهادي باليمن بسبع سنين.
وأقام على هذه الجملة بالجيل والديلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأزال الرسوم الجائرة التي وضعها آل وهشوذان على الديلم، واستنقذهم مما كانوا فيه من الضيم في الأنفس والأولاد والأموال، ووقعت له حروب مرة بعد أخرى مع جستان، فكانت الدائرة على جستان، وزال سلطان جستان عن سهل الديلم جملة، وانحسم طمعه عنها، وتخلص المسلمون من قبيح ظلمه لهم، وحكمه في أهاليهم وأولادهم واسترقاقه لهم ببركة دعوته عليه السلام.(1/114)


وقد كان قبل مفارقته له أحوج إلى مساعدته على ورود باب آمل لحرب الخراسانية، وقد كان جستان أظهر أن الأمر له، وسار تحت رايته فزعا من الخرسانية وقَصْدِهم إياه، ولم يكن الناصر رضي اللّه عنه يثق بوفائه ويعلم أنَّه إن ظفر عاد إلى عادته، فلم يتشدد في الحرب ولم يثبت ثبات مثله، فصارت الغلبة للخراسانية وانهزم الناصر وجستان، وعاد الناصر إلى موضعه، وكان يقيم تارة بهوسم فيراعي أمر الجيل وتارة بكيلاكجان فيراعي أمر الديلم.
وأحوج جستان آخراً إلى أن بايعه، وحلف له بالأيمان المغلظة أنَّه لا يخالفه، وَوَفَى بذلك، وصار من أتباعه.
وصنف [الناصر] في مقامه هناك كتباً كثيرة، وكان يحث النَّاس على نصرة الهادي يحيى بن الحسين، ويقول: من يمكنه أن ينصره وقَرُبَ منه فنصرته واجبة عليه، ومن تمكن من نصرتي وقَرُبَ مني فلينصرني.
وامتد مقامه هناك أربع عشرة سنة، واتصل بأحمد بن إسماعيل خبره في قُوَّته وظهوره واجتماع الجيل والديلم على طاعته، وأنه يريد قصد طبرستان، فوجه إلى آمل عساكر جَمَّة، وكتب إلى محمد بن علي المعروف بصعلوك بورود (آمل) من (الري) ومحاربته، فورد وبلغ عدد الجماعه أكثر من ثلاثين ألفا، وانضم إليهم من أهل (آمل) وحشوهم وطَغَامهم عدد كثير، وكان كل يوم يركبون في المواكب على طريقة الغزاة ويستنفرون إلى حربه عليه السلام، وكثير من قُصَّاصهم يفتونهم بذلك، وخرجوا بأجمعهم إلى (شالوس).(1/115)

23 / 30
ع
En
A+
A-