وإنه قسم يوماً شيئاً من التمر فحبس منه ضعفي ما أعطا الواحد منا فداخلني من ذلك شيء لقوله الذي كان يقوله، ورابني ذلك، إلى أن قدم بعض الغُيَّب من أصحابه من وجه بعثه هو فيه، فأخرج إليه نصيبه مما كان حبسه، فخنقتني العَبْرة وجعلت أقبل أطراف الهادي عليه السلام وأعتذر إليه وأخبره بالأمر. فقال: أنت في حل يا أبا العباس وسعة من جهتنا، ولكن حسنوا ظنونكم بإخوانك فإن المؤمن يكون عند حسن الظن بأخيه.
وكان شيخنا أبو الحسين علي بن إسماعيل الفقيه رحمه اللّه يحكي عن أبيه إسماعيل بن إدريس أنَّه قال: قدمت المدينة وقد وردها يحيى بن الحسين عليه السلام من اليمن مغاضباً لأهلها لأنهم لا يطيعون اللّه ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فاعتزل أمرهم، فوردت كتبهم على أبيه الحسين بن القاسم وعمومته بالمدينة يتوسلون بهم إليه، ويسألونهم التشفع إليه في معاودتهم، على أنهم لا يخالفونه في شيء، فعاودهم بعد مسألتهم إياه، وذكروا أنَّه منذ فارقهم قد اختلفت ثمارهم وزروعهم وأسرع الموت في مواشيهم وأنعامهم.
قال: فسألته عليه السلام عن ذبيحة المشبهة والمجبرة. قال: لا تحل. فقلت: أتَحِلُّ ذبائح اليهود والنصارى ولا تحل ذبائح المشبهة والمجبرة ؟ فضحك وقال: يا أبا علي لا تحل ذبائح اليهود ولا النصارى.
حدثني أبو العباس الحسني رحمه اللّه، عن عمه محمد بن الحسن رحمه اللّه، قال: سمعت علي بن العباس رحمه اللّه يقول: ركب يحيى بن الحسين عليه السلام إلى موضع هو مجمع يعظ النَّاس ويذكرهم، فبلغ أبا القاسم ابنه ركوبه فأسرج وركب وأسرع نحوه فعرض له في الطريق بعض الطبرية وحال بينه وبين الهادي فأهوى إليه بسوطه ينحيه وكانت من الهادي التفاتة إليه فلم يزل يقطع مسيره في تقريعه وعذله. ويقول: أبا القاسم، مؤمنٌ وليُ لله تعالى تكلمه بالسوط ؟!(1/106)
قال: وسمعت علي بن العباس رحمه اللّه يذكر أن الهادي عليه السلام نزل يوما في بعض المواضع وجاء إليه ابنه أبو القاسم المرتضى، فأخذ بعض الطبرية كساء له كان عليه ولفه ووضعه ليجلس عليه أبو القاسم فجلس، ثم جاء غلام أبي القاسم بكساء في منديل على عاتقه فأمر الهادي بإخراجه، ثم قال للرجل: إجلس عليه كما جلس هو على مالك.
قال: وسمعت علي بن العباس يقول: كنا عنده يوما وقد حمي النهار وتعالى وهو يخفق برأسه، فقمنا، وقال: أدخل واغفي غفوة. وخرجت لحاجتي وانصرفت سريعاً، وكان اجتيازي على الموضع الذي يجلس فيه للناس، فإذا أنا به في ذلك الموضع فقلت له في ذلك. فقال: لم أجسر على أن أنام، وقلت: عسى أن ينتاب الباب مظلوم فيؤاخذني اللّه بحقه، ووليت راجعاً كما دخلت!!
وقد كان عليه السلام خرج من اليمن وعاود المدينة في بعض الأوقات مغاضباً لأهلها، وكان السبب فيه: أن بعض الأمراء هناك من أولاد ملوك اليمن من عشائر أبي العتاهية شرب الخمر فأمر بإحضاره ليقيم عليه الحد، فامتنع عليه، فقال عليه السلام: لا أكون كالفتيلة تضيء غيرها وتحرق نفسها. فتبعه جماعة منهم وأظهروا التوبة والإنابة وتشفعوا إلى أبيه في مسألة العودة فعاد.(1/107)
وحدثني يوسف بن أحمد بن كج قال: حدثني القاضي أبو حماد المروزي، قال: حدثني أبو الحسن الهمداني المعروف بالحروري ، وكان رجلا فقيها على مذهب الشافعي، تاجر جمع بين الفقه والتجارة. قال: قصدت اليمن في بعض الأوقات، وحملت ما أتجر فيه إلى هناك ابتغاء لرؤية يحيى بن الحسين لِمَا كان يتصل بي عن آثاره، فلما حصلت بصعدة حرسها اللّه، قلت لمن لقيته من أهلها: كيف أصل إليه، ومتى أصل، وبمن أتوسل في هذا الباب؟ فقيل لي: الأمر أهون مما تقدر، تراه الساعة إذا دخل الجامع للصلاة بالناس، فإنه يصلي بالناس الصلوات كلها، فانتظرته حتى خرج للصلاة فصلى بالناس وصليت خلفه، فلما فرغ من صلاته تأملته فإذا هو قد مشى في المسجد إلى قوم أعِلاّ في ناحية منه، فعادهم وتفقد أحوالهم بنفسه، ثم مشى في السوق وأنا أتبعه، فغير شيئا أنكره، ووعظ قوماً وزجرهم عن بعض المناكير، ثم عاد إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه من داره للناس، فنفذت إليه وسلمت فرحب بي وأجلسني وسألني عن حالي ومقدمي، فعرفته أني تاجر وأني وردت ذلك المكان تبركاً بالنظر إليه، وعرف أني من أهل العلم فأنس بي، وكان يكرمني إذا دخلت إليه، إلى أن قيل لي يوم من الأيام: إن غداً يوم المظالم وإنه يقعد فيه للنظر بين النَّاس، فحضرت غدات هذا اليوم، فشاهدت هيبة عظيمة، ورأيت الأمراء والقواد والرجالة وقوفاً بين يديه على مراتبهم وهو ينظر في القصص ويسمع الظلامات ويفصل الأمور، فكأني شاهدت رجلا غير من كنت شاهدته وبهرتني هيبته.(1/108)
فادَّعى رجل على رجل حقاً فأنكره المدَّعي عليه وسأله البينة، فأتى بها فحلَّف الشهود فتعجبت من ذلك، فلما تفرق النَّاس دنوت منه فقلت: أيها الإمام رأيتك حَلَّفْتَ الشهود!! فقال: هذا رأيي، أنا أرى تحليف الشهود احتياطاً عند بعض التهمة، ما تنكر من هذا؟ هو قول طاووس من التابعين، وقد قال اللّه تعالى: ?فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا?[المائدة: 107]، قال: فاستفدت في تلك الحال منه مذهبه، وقوله وقول من قال به من التابعين، والدلالة عليه، ولم أكن عرفت شيئا منه قبل ذلك.
وأنفذ إلي يوما من الأيام يقول: إن كان في مالك لله حق زكاة فاخرجه إلينا، فقلت: سمعاً وطاعةً من لي بأن أخرج زكاتي إليه وحَسَبْتُ حسابي فإذا علي من الزكاة عشرة دنانير، فأنفذتها إليه، فلما كان بعد يومين بعث إليَّ واستدعاني، فإذا هو يوم العطاء، وقد جلس لذلك والمال يوزن ويخرج إلى النَّاس، فقال لي: أحضرتك لتشهد إخراج زكاتك إلى المستحقين. فقمت وقلت: اللّه اللّه أيها الإمام كأني أرتاب بشيء من فعلك، فتبسم وقال: ما ذهبت إلى حيث ظننت، ولكن أردت أن تشهد إخراج زكاتك.
وقلت له يوما من الأيام: رأيتك أيها الإمام أول ما رأيتك وأنت تطوف على المرضى في المسجد تعودهم وتمشي في السوق، فقال لي: هكذا كان أبائي، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وأنت إنما عهدت الجبابرة والظلمة.
وسيرته عليه السلام أكثر من أن يحتمل هذا الكتاب ذكرها. وقد صنف علي بن محمد بن عبيد اللّه العلوي العباسي سيرته وجمع في كتابه أكثرها، إلاّ أنا أوردنا هاهنا أشياء منها لم يوردها في ذلك الكتاب.(1/109)
مبلغ عمره وموضع قبره
وتوفي: عليه السلام: في آخر سنة ثمان وتسعين ومائتين عشية الأحد لعشر بقين من ذي الحجة، وكان ظهوره سنة ثمانين، فكانت مدة ظهوره وخلافته ثمان عشرة سنة إلا أياما، ومضى عن ثلاث وخمسين سنة، وقد كان اعتل علة شديدة إلا أنَّه مضى وهو جالس لم تتغير جلسته.
ودفن عليه السلام في جانب من المسجد الجامع بصعدة حرسها اللّه.(1/110)