فلم يمت حين مات وقد خلف وراءه تراثاً عظيماً في الفقه والأصول والأدب والتاريخ، فمازالت أصداء آرائه وتخريجاته وحججه تتردد بين جدران المساجد وفي حلقات العلم، وتُرسم في صفحات الكتب، ومازال العلماء فقهاء ومحدثين ومؤرخين ينهلون من معينه ويكترعون من فيض علومه، فقد خَلَّف لنا كنوزاً وذخائر من المؤلفات التي دون فيها أنظاره وجفف فيها أفكاره، وامتاز كغيره من أئمة الزيدية بالزعامة السياسية والدينية، فكان المنظور إليه بعد أخيه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين في العلم والفضل، وكانت آراء العامة والخاصة لاتختلف في أنَّه أجدر مَنْ في وقته بالزعامة، فلذا هرع النَّاس إليه بعد موت أخيه الإمام المؤيد بالله سنة (411 هـ) يحثونه على الدعوة ونَصْبِ نفسه إماماً للمسلمين، فأجابه العلماء والفضلاء في طول البلاد وعرضها، وبذلك الحدث عمت الفرحة أوساط الجماهير، وعبر كل عن مشاعره بما يحلو له، وكان أبو الفرج بن هندو ـ وهو من مشاهير الفلاسفة والأدباء ـ ممن غمرتهم الفرحة والسرور فعبر عن ذلك بأبيات قال فيها:
سَرَّ النبوة والنبيا .... وزَهَى الوصِيَّة والوصيَّا
أن الدَّيالم بايعت .... يحيى بن هارون الرَّضيَّا
ثم استريت بعادة الـ .... أيام إذ خانت عليَّا
آل النبي طلبتُمُ .... ميراثَكم طلباً بطيَّا
ياليت شعري هل أرى .... نجماً لدولتكم مضيَّا
فأكون أولَ من يَهُـ .... ـزُّ إلى الهِيَاجِ المشرِفيَّا
ولم تقع أي نزاعات أو حروب في زمانه لأنه كان محل رضى لجميع الجماهير من مختلف الفئات وسائر الطبقات، فلم يكن العامي أسرع إليه من العالم، ولا العالم من النِّد المنافس.(1/6)
ولم يزل يحكم بين النَّاس بالعدل ويسير فيهم سيرة الأنبياء ويقضي حوائج المحتاجين ويدفع عن المظلومين ويحسن إلى المحرومين، ويقرب العلماء ويجالس الفقراء، ويستحث ذوي الكفاءات والخبرة على العمل وإفادة المجتمع، ولم يأل جهداً في ترسيخ المفاهيم الإسلامية ونشر المعارف الدينية، وتنشيط النهضة الثقافية التي تميز بها عصره وعصر أخيه من قبله في الجيل والديلم.
ونال الإمام أبو طالب إعجاب الكثيرين بسياسته كحاكم، وبثقافته كعالم، وبأسلوبه كمؤلف، وعبر كلٌ عن جوانب إعجابه، وكان من مظاهر ذلك الإعجاب مايلي:
ـ اشتهر عن الصاحب بن عباد أنَّه كان كثير الإعجاب بالسيدين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب وكان يُدِيم مجالستهما، ويقول عنهما: " ماتحت الفرقدين مثل الأخوين " .
ـ وقال الحاكم الجشمي: " كان شيخنا أبو الحسن علي بن عبد اللّه اختلف إليه مدة بجرجان والسيد أبو القاسم الحسني يخرج من مجلسه فيحكيان عن علمه وورعه واجتهاده وعبادته وخصاله الحميدة وسيرته المرضية شيئاً عجيباً يليق بمثل ذلك الصدر".
ـ وقال: " كان جامعاً لشرائط الإمامة لم يكن في عصره مثله مبرزاً في أنواع العلوم ".
ـ وقال: " كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي، وجذوة من الكلام النبوي".
ـ وقال المنصور بالله عبد اللّه بن حمزة: "لم يبق من فنون العلم فن إلا طار في أرجائه وسبح في أفنائه " .
ـ وقال الشهيد حميد: " كان عليه السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأحسنها " .
ـ وقال ابن حجر: " كان إماماً على مذهب زيد بن علي، وكان فاضلا غزير العلم مكثراً عارفاً بالأدب وطريقة الحديث " .
ـ وقال أبو طاهر: " كان من أمثل أهل البيت ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع " .
ـ وقال الأمين: ( ( بلغ درجة كبيرة في العلم حتى قال الزيدية فيه: إنَّه لم يكن ثم أحد أعلم منه " .(1/7)
ـ وقال ابن عنبة: " كان عالماً فاضلا، له مصنفات في الكلام، بويع له ولقب بالسيد الناطق بالحق " .
وبعد مضي أربع وثمانين سنة من عمره، وانقضاء ثلاثة عشرة سنة من خلافته آذن بالرحيل إلى عالم الآخرة، وترك خلافة الدنيا، ولم يجمع من ورائها ديناراً ولادرهماً، وخَلَّف أهله وورثته على الحالة التي كانوا عليها قبل خلافته، فكانت وفاته عليه السلام سنة (424 هـ) في أعمال ديلمان، وحمله ابنه إلى آمل ودفن في جرجان وقبره بها مشهور مزور إلى اليوم، ولم يخلف إلا ولداً واحداً هو: أبو هاشم محمد بن يحيى بن الحسين.
مؤلفاته
خلف لنا الإمام أبو طالب ميراثا فكرياً خالداً ضمنه خلاصة علومه وتجاربه، فكان منه:
1 ـ كتاب (المبادئ) في علم الكلام ، ذكره الإمام عبد اللّه بن حمزة .
2 ـ (المجزي) في أصول الفقه ، ذكره الإمام عبد اللّه بن حمزة، والشهيد حميد وغيرهما، وقال الشهيد حميد: " هو مجلدان وفيه من التفصيل البليغ والعلم الواسع مالايكاد يوجد مثله في كتاب من كتب هذا الفن ) ) .
3 ـ (التحرير) في فروع الفقه ، وهو كتاب قيم جمع فيه مسائل فقه القاسم والهادي وولديه عليهم السلام، وصاغها بصياغة أنيقة مبوبة على أبواب الفقه. قال الحجوري في الروضة: " صنف كتاب (التحرير) وجمع فيه فقه أهل البيت، ثم شرحه واحتج له، فهو أجمع كتاب من كتب أهل البيت ". وقد جمعت بعض نسخه القديمة وقمت بتحقيقه وأنا الآن مشرف على نهايته أسأل اللّه الإعانة والتوفيق.(1/8)
4 ـ (شرح التحرير)، ذكره المنصور بالله وقال: " اثني عشر مجلداً جامعة الأدلة والشروط والعلل والأسباب، لايكاد يوجد في كتب أهل العلم ما يساويها " ، وذكره الشهيد حميد وقال: " مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلداً وفيها من حسن الإيراد والإصدار ما يشهد له بالتبريز على النُّظَّار، فإنه بالغ في نصرة مذهب الهادي (ع) في كل وجه، وأودعه من أنواع الأدلة والتعليلات ما لايوجد في كتاب، وفيه فقه جم وعلم غزير، وكذلك فإنه أودع فيه من مذهب الفقهاء ما يكثر، وذكر المهم مما يتعلقون به، ورجح مذهب الهادي (ع) فيه حتى ظهر ترجيحه، وتوهجت مصابيحه، وذكى لكل مشتاق ريحه ". وقدا أشار إليه الإمام أبوطالب في مواضع شتى من كتابه التحرير.
5 ـ (زيادات شرح الأصول)، ذكره الشهيد حميد وقال عنه: " فيه علم حسن يشهد له بالبلوغ إلى أعلى منزلة من الكلام ".
6 ـ (الدعامة) بحث في موضوع الإمامة ، ذكره الشهيد حميد وقال عنه: " هو من عجائب الكتب، وأودعه من الغرائب المستنبطات، والأدلة القاطعة، والأجوبة عن شبهات المخالفين النافعة ما يقضي أنَّه السابق في هذا الميدان، والمجلى منه في حلبة الرهان، وهو مجلد فيه من أنواع علوم الإمامة ما يكفي ويشفي ". وقد طبع هذا الكتاب باسم: (نصرة مذاهب الزيدية)، ونسبه محققه الدكتور ناجي حسن إلى: الصاحب بن عباد، وهو مشحون بالأخطاء والسقط. ويوجد لدينا منه نسخة مخطوطة.
7 ـ (جوامع الأدلة) في أصول الفقه ـ ذكره الشهيد حميد .
8 ـ (التذكرة) في فروع الفقه - ذكره الجنداري.
9 ـ (جوامع النصوص)، ذكره الزركلي .
10 ـ كتاب (شرح البالغ المدرك)، شرح فيه كتاب البالغ المدرك للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، وقد طبع بتحقيقنا، وهو كتاب قيم في أصول الدين وما يتعلق بها.
11 ـ (الإفادة في تاريخ الأئمة السادة)، وهو هذا الذي بين يديك .(1/9)
12 ـ كتاب (الأمال)ي في الحديث ، طبع بمكتبة دار الحياة طبعة رديئة مملوءة بالأخطاء والتصحيف، وقد بدأت في تحقيقه أسأل اللّه أن يوفقني إلى تقديمة بشكل مرضي.
13 ـ (الحدائق في أخبار ذوي السوابق)، في تاريخ أئمة الزيدية وانتها فيه إلى أخبار الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، ولم يتمه وهو أصل هذا الكتاب. ذكره في مقدمة الإفادة.
14 ـ كتاب (الناظم) في فقه الناصر، ذكره الشهيد حميد عند ذكر الكتب التي جمعت على مذهب الناصر.
تنبيه
ـ دمج الحافظ ابن حجر ـ في ترجمته ـ بينه وبين الإمام المرشد بالله، فذكر أنَّه يقال له: الكيا يحيى، ونسب إليه مقولة في الإمامية إنتقدها عليه الشريف المرتضى، وحكى عن الدقاق أنَّه رآه في الري وقال: كان من الأئمة الحفاظ، وهذا كله يذكر عن الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري، فهو من طبقة الدقاق والشريف المرتضى، واسمه: يحيى بن الحسين بن زيد بن الحسن بن جعفر بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام
ـ وقال العلامة آغا بزرك الطهراني في ترجمته: " يحيى بن الحسين بن هارون أبو طالب الحسيني الهروي من أكابر علمائنا يروي عن أبي الحسين النحوي وعنه محمد بن جعفر الحسيني الاستراباذي، وله كتاب الأمالي الذي ينقل عنه ابن طاووس، وهو مقدم على الإمام الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الأحول بن هارون الأقطع من أئمة الزيدية المولود (340 هـ) المتوفى (424 هـ) " .
وقد يكون وهم ساقه إليه استبعاد أن ينال الإمام أبو طالب إعجاب الإمامية والزيدية معا، واتفاقهم على الرواية عنه، وأخذه عن علماء الفريقين، وما ذكره من المميزات والأوصاف مجتمعة فيه، إلا تصحيف (الهاروني) إلى (الهروي) ، وتصحيف (الحسني) إلى (الحسيني) . واللّه أعلم، وبن طاووس إنما يأخذ عن أمالي الإمام أبي طالب.
وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى لآله الطاهرين.(1/10)