صفته عليه السلام
كان عليه السلام تام الخلق، أبيض اللون، كثَّ اللحية، وكانت لحيته كالقطنة لشدة البياض.
وحكى الناصر للحق الحسن بن علي رضي اللّه عنه عن عبد اللّه بن الحسن (يعني الإيوازي الكلاري) أنَّه قال: أبو محمد القاسم بن إبراهيم رضي اللّه عنه لم يكن يحلق شاربه، وأنه كان مثل شارب إبنه إسماعيل بن عبد اللّه ـ قال: وأشار إليه وهو بين يديه ـ.
وقال رضي اللّه عنه: رأيت كتاباً له عليه السلام إلى عبد اللّه بن الحسن الكلاري ، وكان عنوانه: يدفع إن شاء اللّه إلى أبي محمد عبد اللّه بن الحسن حفظه اللّه من أبي الحسن. قال: عبد اللّه بن الحسن وبهذا يكنيني على كنيته. قال: ورأيت خطه داخل الكتاب وهو خط وسط حَسَن بَيِّن.(1/91)
مبايعته ونبذ من سيرته واستتاره ومبلغ عمره وموضع قبره
استشهد أخوه محمد بن إبراهيم وهو بمصر، فلما عَرَفَ ذلك دعا إلى نفسه وبَثَّ الدعاة وهو على حال الاستتار، فأجابه عَالَم من النَّاس من بلدان مختلفة، وجاءته بيعة أهل مكة، والمدينة، والكوفة، وأهل الري، وقزوين، وطبرستان، والديلم، وكاتبه أهل العدل من البصرة، والأهواز، وحثوه على الظهور وإظهار الدعوة، فأقام عليه السلام بمصر نحو عشر سنين.
واشتد الطلب له هناك من عبد اللّه بن طاهر، فلم يمكنه المقام، فعاد إلى بلاد الحجاز وتهامة، وخرج جماعة من دعاته من بني عمه وغيرهم إلى بلخ، والطالقان، والجوزجان، ومَرْوِرُوذ فبايعه كثير من أهلها، وسألوه أن ينفذ إليهم بولده ليظهروا الدعوة.
فانتشر خبره قبل التمكن من ذلك، فتوجهت الجيوش في طلبه نحو اليمن، فاستنام إلى حيّ من البدو واستخفى فيه.
وأراد الخروج بالمدينة في وقت من الأوقات، فأشار عليه أصحابه بأن لا يفعل ذلك، وقالوا: المدينة والحجاز تسرع إليهما العساكر ولا يتمكن فيها من السير.
ولم يزل على هذه الطريقة مثابراً على الدعوة صابراً على التغرب والتردد في النواحي والبلدان، متحملا للشدة، مجتهداً في إظهار دين اللّه.
ولما اجتمع أمره وقَرُبَ خروجه بعد وفاة المأمون وتولي محمد بن هارون الملقب بالمعتصم، تشدد محمد هذا في طلبه وأنفذ الملقب: ببغا الكبير وأشناش في عساكر كثيرة كثيفة في تتبع أثره، وأحوج إلى الانفراد عن أصحابه وانتقض أمر ظهوره.(1/92)
وكان قد ورد الكوفة في بعض الأوقات، واجتمع معه هناك في دار محمد بن منصور: أحمد بن عيسى بن زيد فقيه آل رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وعابدهم، وعبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن الفاضل الزاهد، والحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد، وكانت فضيلة السبق إلى منابذة الظالمين والامتناع من بيعتهم وترك متابعتهم والانقياد لهم إنتهت إلى هؤلاء من جملة أعيان العترة، فاختاروا القاسم عليه السلام للإمامة وقدموه على أنفسهم، وقالوا له: أنت أحقنا بهذا الأمر لفضل علمك، وبايعوه، وذلك في سنة عشرين ومائتين.
حدثني أبو العباس رحمه اللّه قال: سمعت أبا زيد عيسى بن محمد العلوي رحمه اللّه يقول: قلت لمحمد بن منصور: النَّاس يقولون: إنك لم تستكثر من القاسم عليه السلام. قال: بلى، صحبته فيما كنت أقع إليه خمساً وعشرين سنة، فقلنا له: إنك لست تكثر الرواية عنه، قال: كأنكم تظنون أنا كلما أردنا كلمناه، مَنْ كان يجسر على ذلك منا !؟ ولقد كان له في نفسه شغل، كنت إذا لقيته لقيته كأنما أُلْبِسَ حُزْناً.
وحدثني عن جده الحسن بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه الفارسي وكان خادم القاسم عليه السلام وملازمه في السَّفر والحضر، قال: دخلنا معه عليه السلام حين اشتد به الطلب ـ أظنه قال: أوائل بلاد مصر ـ فانتهى إلى خان، فاكترى خمس حجر متلاصقات، فقلت له يا بن رسول اللّه نحن في عَوَزٍ من النفقة وتكفينا حجرة من هذه الحجر، ففرغ حجرتين عن اليمين وحجرتين عن اليسار، ونزلنا معه الوسطى منهن، وقال: هو أوقى لنا من مجاورة فاجر وسماع منكر.(1/93)
وحدثني عن جده، عن أبي عبد اللّه الفارسي قال: ضاق بالإمام القاسم عليه السلام المسالك واشتد الطلب، ونحن مختفون معه خلف حانوت أسكاف من خُلصان الزيدية، فَنُودِيَ نداء يبلغنا صوته: برئت الذمة ممن آوى القاسم بن إبراهيم، وممن لا يدل عليه، ومن دل عليه فله ألف دينار، ومن البز كذا وكذا. والأسكافي مطرقٌ يسمع ويعمل ولا يرفع رأسه، فلما جأنا قلنا له: أما ارْتَعت؟ قال: ومن لي بارتياعي منهم، ولو قُرِّضْتُ بالمقاريض بعد إرضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله عني في وقايتي لولده بنفسي.
وحدثني عن جده، عن أبي عبد اللّه الفارسي قال: حججنا مع القاسم بن إبراهيم عليه السلام، فاستيقظت في بعض الليل وافتقدته، فخرجت وأتيت المسجد الحرام؛ فإذا أنا به وراء المقام لاطئا بالأرض ساجدا، وقد بل الثرى بدموعه، وهو يقول: إلهي من أنا فتعذبني، فواللّه ما يشين ملكك معصيتي، ولا يزين ملكك طاعتي.
وحدثني رحمه الله، عن عبد اللّه بن أحمد بن سلام رحمه الله، أنَّه قال عن نفسه أو عن أبيه: لست أجسر على النظر في (كتاب الهجرة) للقاسم عليه السلام، وأومى إلى أن ذلك لما فيه من التخشين والتشديد في الزهد وترك الدنيا والتباعد من الظالمين.
وحكى الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام عن أبيه أن المأمون كلف بعض العلوية أن يتوسط بينه وبين القاسم عليه السلام، ويصل ما بينهما على أن يبذل له مالاً عظيماً، فخاطبه في أن يبدأه بكتاب أو يجيب عن كتابه، فقال عليه السلام: لا يراني اللّه تعالى أفعل ذلك أبدا!!(1/94)
وحمل الحروري ـ وهوحي من جذام ـ إلى القاسم سبعة أبغل عليها دنانير فردها، فلامه أهله على ذلك فقال:
تقول التي أنا رِدْءٌ لها .... وقاءَ الحوادثِ دُوْنَ الردا
ألست ترى المال منْهَلةً .... مخارمُ أفواهها باللُّهى
فقلت لها وهي لَوَّامة .... وَفي عيشها لو صَحَتْ ما كفى
كفافَ امرءٍ قانع قوتُه .... ومن يرض بالعيش نال الغنى
فإني وما رمتِ في نيله .... وقبلك حبُ الغنى ما ازْدَهَا
كذي الداء هاجت له شهوةٌ .... فخاف عواقبها فاحتمى
وكان عليه السلام إنتقل إلى الرَّس في آخر أيامه، وهي: أرض إشتراها عليه السلام وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة وبنى هناك لنفسه ولولده، وتوفي بها ـ وقد حصل له ثواب المجاهدين من الأئمة السابقين ـ سنة ست وأربعين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة، ودفن فيها ومشهده معروف يزوره من يريد زيارته فيخرج من المدينة إليه.(1/95)