واليوم يكذب عَلَيَّ ويسعى بي إليك، فأنكر الزُّبَيْرِي أن يكون قاله، وابتدأ يحلف على أنَّه لم يقل ذلك، وقال: والله الذي لا إله إلا هو، فقطع يحيى عليه السلام يمينه عليه، وقال له: لا تحلف هكذا، ولكن إحلف كما أحَلِّفُكَ، فإن عندنا يميناً لا يحلف بها أحد كاذباً إلا عوجل بالعقوبة، قل: " قد برئت من حول اللّه وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون اللّه، استكباراً على اللّه، واستغناء عنه، واستعلاء عليه، إن كنتُ قلتُ هذا الشعر ". فأضْرَبَ عبد اللّه الزبيري وامتنع من الحلف بذلك، فغضب هارون وقال للفضل بن الربيع: يا عباسي ماله لا يحلف إن كان صادقاً، فصاح به الفضل بن الربيع وقال: إحلف ويحك ، فحلف باليمين، ووجهه متغير وهو يرتعد، فضرب يحيى بين كتفيه وقال له: يا ابن مصعب قطعت والله عمرك، والله لا تفلح بعدها، فمات في اليوم الثالث من غير اختلاف في الرواية، واختلفوا في سبب موته، فمنهم من قال أصابه الجذام فتقطع ومات، وكان هارون يقول كثيرا: سبحان اللّه ما أسرع ما أديل ليحيى بن عبد اللّه من ابن مصعب.
ثم رده إلى الحبس وضيق عليه، وله أخبار في ذلك يطول ذكرها.(1/81)
وكان عليه السلام إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة سجد سجدة إلى قرب السَّحر، ثم يقوم فيصلي، وكان هارون يطلع عليه من قصره، فقال ليلة ليحيى بن خالد وهو عنده: أنظر هل ترى في ذلك الصحن شيئاً؟ وأشار إلى الموضع الذي كان يسجد فيه فقام ونظر. فقال: أرى بياضاً، ثم قال له قرب طلوع الفجر: أنظر هل ترى ذلك البياض؟ فنظر فقال: لست أراه. فقال: ذلك يحيى بن عبد اللّه إذا فرغ من صلاة العَتَمَة يسجد سجدة يبقى فيها إلى آخر الليل. قال يحيى: فقلت في نفسي: أنظر ويلك ألا تكون المبتلى به، ثم سلمه إلى يحيى بن خالد، وكان يحيى يتوفر عليه ويحسن إليه ولا يدع باباً من أبواب التقرب إليه إلا تبلغه، فقال له عليه السلام يوما: يا أبا علي إن لصاحبك فينا إرادة فإذا أمضاها فسلم إليه هذه الرقعة وأعطاه رقيعة مختومة، وحَرَّجَ عليه أن لايناولها إياه في حال حياته.
ثم رَدَّه هارون إلى داره، وضيق عليه في الطعام والشراب حتى ضعف ضعفاً شديداً، وكان هارون ربما دخل إليه وربما أخرجه إلى عنده ويهدده، ويطالبه بأن يسمي له أصحابه ومن بايعه فيمتنع من ذلك.
ثم سقاه السُّم فمات عليه السلام في حبسه ببغداد، وقيل: إنَّه خُنِقَ، وقيل: إنَّه لما خرب القصر المعروف بالقرار في فتنة محمد الملقب بالأمين أيام قتال المأمون له وجد ميتاً بين اسطوانتين.
ولما ظهر موتُه دفع يحيى بن خالد الرقعة إلى هارون، فإذا فيها: " بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا هارون، المستعدى قد تقدم، والخصم على الأثر، والحاكم لا يحتاج إلى بينة ".(1/82)
الإمام محمد بن إبراهيم عليه السلام
هو: أبو القاسم، وقيل أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشِّبْه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وأمه: أم الزبير بنت عبد اللّه بن أبي بكر بن عباس بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم.
وكان أبوه إبراهيم في حبس محمد الملقب بالمهدي، وموسى بعده، وهارون بعده، ومات في الحبس.
وكان محمد بن إبراهيم عليه السلام على طريقة سلفه في العلم والفضل والدين والورع والشجاعة.(1/83)
أولاده عليه السلام:
إسماعيل، وجعفر، وعبد اللّه، وفاطمة، أمهم أم جعفر بنت إسحاق بن إبراهيم بن جعفر بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن الأزهر بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة، ولهم عقب.(1/84)
بيعته ومدة ظهوره ونبذ من سيرته وذكروفاته وموضع قبره
خرج عليه السلام من المدينة إلى الكوفة باستدعاء أبي السرايا السَّرِيّ بن منصور الشيباني له وجماعة الأشراف والشيعة، فظهر بها يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة، وبايعه أبو السرايا وجماعة زيدية الكوفة، وبَثَّ الدعاة في سائر النواحي، وأنفذ أخاه القاسم بن إبراهيم عليهما السلام إلى مصر للدعاء إليه وأَخْذِ البيعة له، وللقاسم عليه السلام يومئذ سبع أو ست وعشرون سنة.
وبايعه من الأشراف: محمد بن محمد بن زيد، ومحمد بن جعفر بن محمد بن علي، وعلي بن عبيد اللّه، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ومن الفقهاء: يحيى بن آدم، وكان عليه السلام شرط عليه شرائط البيعة وهو يقول: ما استطعت ما استطعت. فقال له محمد بن إبراهيم: هذا قد استثنى لك القرآن، قال تعالى: ?فَاتَّقُوْا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16]. وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعبد اللّه بن علقمة.
فوجه إليه الحسنُ بن سهل ـ وهو يلي العراق من قِبَل المأمون ـ: زهيرَ بن المسيب الضَّبِّي مع عشرة آلاف رجل، فخرج إليه أبو السرايا مع أصحابه من أهل الكوفة والعرب فقاتلهم وأوقع بهم وهزمهم وغنم دوابهم وكراعهم.
ثم أنفذ الحسن بن سهل بعبدوس بن عبد الصمد وضم إليه جيشاً كثيراً لإعادة القتال.
وكانت له عليه السلام ست وقعات على باب الكوفة، وأصابه في خروجه سهم وطعن فاعْتَلّ.(1/85)