[رسالة أبي يحيى الفقيه]
قال: ووجَّه إلى مصر وما يليها ثلاثة. وكتب معهم إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الفقيه - الذي يقال له: أستاذ محمد بن إدريس الشافعي، وكان من دعاة يحيى، ومن أجلة أهل زمانه - إلى أبي محمد الحضرمي: (سلام عليك فإنِّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يُصلِّي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى المستوجبين الصلاة من أهله. أما بعد:
فقد بلغني حبُّك أهل بيت نبيك عامة، ويحيى بن عبدالله خاصة لمكان النبي صلى الله عليه وآله منهم، ولموضعهم الذي فضَّلهم الله به من بيننا، فلقد وفِّقْتَ لرشدك بمودَّتِك لهم، لأنَّهم أحق الناس بذلك منك ومن الأمة وأقَمْنَهُم أن يقربك حُبُّهُم إلى ربك، لأنهم أهل بيت الرحمة، وموضع العصمة، وقرار الرسالة، وإليهم كان مختلف الملائكة، وأهل رسول الله وعترته، فهم معدن العلم وغاية الحكم. فَتَمَسَّك بصاحبك؛ واستظل بظله، وأعِنْهُ على أمره، وارض به محلاً، ولا تبغ به بدلاً، فإنَّه من شجرة باسقة الفُرُوْعِ، طيبة المنبع، ثابتة الأصل، دائمة الأكل، قد ساخت عروقها؛ فهي طيبة الثرى، واهتزت غصونها فهي تنطف النّدى، وأورقت منضرة، ونوّرت مُزْهِرَةً، وأثمرة مُوفَرَة؛ لاينقص ثمارها الجناة، ولا شَرَعَهَا السُّعاةُ، فمن نزل بها وأوى إليها وَرَدَ حِيَاضاً تفيض، ورعى رياضاً لا تغيض، وشرب شراباً رَويِّاً هنيئاً مرياً متلألئاً، عريضاً فَضِيضاً، فَرَوِيَ وَارْتَوى وأرْوَى من قرار رواءٍ بدلآء ملئى مبذولة غير ممنوعة، معرضة غير مقطوعة. فاستمسك بالعروة الوثقى من معرفة حق الله عليك في نصرة يحيى، وتحريم حرمته، واستغنم الظفر بما يلزمك من حفظه لمكان النبي عليه السلام، ومكان الوصي بعده الإمام، ومكان أهله منه وحفظ دين الله فيه خاصة، وفي أهل البيت عامة.(1/42)


وأحببهم جميعاً حباً نافعاً، واجعل حبك إيَّاهُمْ حباً دائماً من غير تقصير ولا إفراط ولا احتراق ولا اختلاف. تجمعهم إذا تفرقوا ولا تفرق بينهم إذا اجتمعوا، ولا تصدق عليهم أهل الفرية من الرافضة والغلاة، فإنهم أهل العداوة للقائمين بالحق من عترة الرسول، وسوء النية فيهم، والجرأة على الله بالإفك والشنئان، وهم أهل الخلابة وقلة المهابة للعواقب.
واعلم أن من اعتقد ترك ما نُهِيَ عنه في السِّر الباطن، وأظهر الحق في المواطن، ولزم التقوى، وحفظ حق ذي القربى، وتجنب في حبِّهم الجور والحزونة، وسلك الطريقة الوسطى، وسار فيهم بالقسط والسهولة، وأقرّ بالفضل لأهله، وفضل ذا الفضل منهم بفضله وتبريزه به، ودعا إلى الله وإلى كتابه وسنة نبيه، ولم ير الإغماض في دينه، ولم ينقض مبرماً، ولم يستحل محرماً، فمن كانت هذه صفته لحق بالصالحين من سلفه وبخير آبائه الطاهرين.(1/43)


فتدبر ما وصفتُ لك، وميّزه بقلبك، فإن كنت كذلك لحقتَ بأهل الولاية الباطنة والموَدَّة الواتنة التي لم تغيرها فتنةٌ ولم تصبها أبنة، فتسكن خير دار عند أكرم جار، بأهنأ راحةٍ وأفضل قرارٍ، في مقام لا تِشُوبُهُ المكاره والغِّل، ولا يعاب أهله بسوء الأخوة والبخل، يتلاقون بأحسنِ تحيةٍ، بصدور بريَّة وأخلاق سنيةٍ، لا تمازجها الريبة، ولاتنشاع فيها الغيبة، قد وصلهم الله بحبله فاتصلوا به، وجمعهم في جواره فاستبشروا به، فعلى ذلك يتواخون وبه يتواصلون، يَتَحَابُّون بالولاية وَيَتَوادُّون بحسن الرِّعاية، فهم كما قال الله تعالى: ?كَزَرعٍ أخْرَجَ شَطئَهُ فَأزَرَهُ?[سورة الفتح:29] . فهم مِثْلُ من خَلاَ من قبلهم مَسَّتْهُمُ البأساء والضراءُ ونالهم المكروه واللأْوَاء والشدة والأذى، وامتُحِنُوا بعظيم المحن والبلوى، فصبروا لله على ما امتحنهم به، وأخلصوا لله ما أرادوا منه، فجازاهم الله على ما أسلفوا، وكافأهم بجميل ما اكتسبوا، وأحبهم لعظيم ما صبروا، والله يحب الصابرين.
رزقنا الله وإياك تراحم الأبرار، وتواصل الأخيار الذين لهم عقبى الدار، وفتح لنا ولك أبواب الحكمة، وعصمنا وإياك بحبل العصمة، وشملنا بجميل النعمة. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته).(1/44)


[بث الرشيد العيون لطلب يحيى عليه السلام]
فوجَّه في جميع الأمصار ثلاثةً ثلاثة، واتصل خبرهم بهارون فبث في طلبهم العيون والجواسيس ووضع المراصد، ووجَّه بصفته إلى جميع العمال في جميع الآفاق. فكان لا يشار إلى أحدٍ أنَّه ذكره أو عرفه إلا عذبه ليأخذ خبره.(1/45)


[رواية اخرى]
قال أبو زيد: قال المدائني: فلمَّا اتفق رأي يحيى على أن يبعث دعاةً إلى الآفاق وجَّه آخاه إدريس مع رجلين نحو المغرب يقال لأحدهما: إسحاق بن راشد، ذكر الآخر. قال: وأقام يحيى بفرع المسور جمعة يوصي أخاه إدريس بن عبدالله، ووجه معه كليب بن سليمان إلى مصر برسالة إلى رجل من الشيعة يعرف: بأبي محمد من الحضارمة، وكتب إليه إبراهيم بن أبي يحيى بالرسالة التي قد ذكرتها.
وكتب يحيى بن عبدالله إلى واضح مولى منصور - وكان على بريد مصر، وكان يتشيع ويميل إلى الطالبيين ميلاً شديداً - فكتب إليه أن يتلطف لحمل إدريس إلى المغرب.
فلمَّا وافى مصر كان من خبره بها، كما أخبرني محمد بن عمرو بن أبي خالد أبو علاثة، قال:حدثنا أخي خيثمة بن [عمر بن خالد] قال: حدثني إبراهيم بن أبي أيوب، قال: لما قدم إدريس إلى مصر يريد المغرب بلغ هارون الرشيد خبره فجمع القواد يشاورهم، وقال: حدث من أمر إدريس كذا وكذا، فأشيروا عليَّ في أمره.
فقالوا: أترى أن تبعث في طلبه العساكر؟.
فقال: ليس هذا برأي. ولكن اطلبوا لي رجلا ثقة ناصحا لهذه الدولة أوليه بريد مصر. فأشاروا عليه بشماخ اليمامي، فقدم الشماخ مصرا وعلى بريدها واضح.
قال: أبو علاثة في خبره، فقال له الرشيد: انطلق إلى مصر، فسل عن خبر إدريس وابحث عنه فإن قدرت عليه فذاك، وإن أُخْبِرتَ أنه قد نفذ إلى المغرب فاطلب رجلا تعطيه ثلاثين ألف دينار على أن تجعل له منها خمسة عشر ألفا وتواضعه الباقي، على أن يشتري بها جهازا ويخرج إلى المغرب، على أنه إذا جاوز رأس الجسر ربط في وسطه كشتير ويقول: أنَّه يهودي.
قال: فقدم الشَّماخ إلى مصر وموسى بن عيسى عليها.
قال: فجاء رجل إلى موسى بن عيسى، فقال: هذا إدريس. وكان هَوَى موسى لا يؤخذ على يديه. فقال للساعي: هل علمت شريطتنا في إدريس؟.(1/46)

9 / 24
ع
En
A+
A-