قال: فأقبل الحسين عليه السلام، فقال: يا عبد خيزران وخالصة، أتظن أنِّي إنَّما خرجت في طلب الدنيا التي تعظمونها، أو للرغبة فيما تعرضون عليَّ من أموال المسلمين؟! ليس ذلك كما تظن، إنَّما خرجتُ غضباً لله ونصرتا لدينه وطلباً للشهادة، وأن يجعل الله مقامي هذا حجة على الأمة. واقتديت في ذلك بأسلافي الماضين المجاهدين، لا حاجة لي في شيء مما عرضت عليَّ، وأنا نافذ فيما خرجت له، وماض على بصيرتي حتى ألحق بربي.
قال: فلما رأت المسوِّدة ثبات أصحاب الحسين وصبرهم جعلوا له كميناً من ورائهم ثم استطردوا لهم حتى خرجوا من الموضع الذي كانوا قد ألجؤوا فيه ظهورهم إلى الجبل الذي سده الحسين بنفسه وأصحابه وقطع مجاز الخيل فيه بالصخر - وهو على تلك الحال إلى اليوم - فلما خرج عليهم الكمين قاتل الحسين وأصحابه قتالا شديداً حتى كثر القتل في الفريقين جميعاً، ثم حملت العساكر بأجمعها فصبروا لهم حتى أُبِيدُوا بأجمعهم، وقتل الحسين صلوات الله عليه ولعن قاتله.
وثبت في المعركة، وصرع أهله حوله بعد منازلة ومدافعة وصبر عظيم على وقع الحديد.
ولقد أخبرني حمدان بن منصور، قال: حدثني القاسم بن إبراهيم الإمام العالم صلوات الله عليه عمن ذكره من أصحابه، قال: رأيت الحسين والناس في المعركة إعتزل فدفن شيئاً فأُتْبع ذلك الدفين فإذا هو بعض وجهه، ضُرِبَ في وجهه ضربة برَت عامته فاعتزل حتى دفنه، ثم تلثم على وجهه وعاود الحرب صلوات الله عليه.(1/32)
وحدثني أيضاً عن محمد بن منصور عن القاسم عن أبيه قال: قيل للحسين بعدما أثخن الإثخان . فقد أُعذرت.
فقال: قال رسول صلى الله عليه وآله: (إنَّ الله ليبغض العبد يستأسر إلا من جراحة مثخنة).
قال: وقال لهم الحسين: يابني عمي إنحازوا وامضوا إلى أي النواحي، فعسى أنْ تدركوا بثأرنا يوماً من الدهر، فإني غير مفارقهم (حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين). فأبوا وصبروا حتى قُتِلُوا قدّامه واحد واحدا.
وأصابت يحيى بن عبدالله سبعون نشابةُ بين درعه، وكَثُرَ حتى صار كالقنفد، وجُرِحَ أخوه إدريس بن عبدالله حتى أنصبغ قميصه، وجرح الحسن بن محمد بن عبدالله وفقئت عينه بنشابة.(1/33)
[جرحى موقعة فخ]
وكان ممن أرتث من قتلى فخ، يحيى، وإدريس أبنا عبدالله، وإبراهيم بن إسماعيل - والد الإمام القاسم بن إبراهيم - يعرف بطباطبا - وعبدالله بن الحسن الأفطس حرجى ما فيهم حراك، فاستدركهم رجل من خزاعة من أهل اليسار كان سيد قومه.
ويقال: بل تحركوا وتعارفوا بالليل، فجزعوا في الجبل حتى صاروا إلى هذا الخزاعي، فآواهم عنده زماناً حتى صلحوا من جراحاتهم وبرؤا من كلمهم وسكن عنهم ألم ذلك، وكف الطلب، وعميت أخبارهم على كل من وُكِّلَ باتباعهم.
ثم أجمع رأيهم على الخروج إلى الحبشة إلى أنْ يجعل الله لهم من أمرهم مخرجا. فركبوا البحر جائزين إلى بلاد الحبشة في مركب للخزاعي، ووجَّه معهم غلمانه حتى عبرو بهم من معتك إلى عيذاب.(1/34)
[علي بن إبراهيم]
واستفضع علي بن إبراهيم ركوب البحر واشمأز منه فسألهم رده فراوده القوم إشفاقاً عليه وأرجعوه ظنىً به، فامتنع من ركوبه واستعظم هوله، فألقوه في بعض مناهل الحجاز، فأَسرَّ نفسه وصار إلى الجار فتباشر به أهلها لأنَّه كان وأصحابه عندهم في عداد من قُتِل.
فلم يخفَ مكانه فوُشِيَ به إلى خليفة للعمري كان بالحجاز، فأنهى ذلك إلى العمري فهجم عليه، وأخذَه وحُمِلَ إلى العراق، فطرح في المطبق فأقام سنين. ولخروجه قصة سنذكر سببها في موضعها إن شاء الله تعالى .
فلمَّا صار يحيى وأصحابه إلى ملك الحبشة أعظمهم وأكبر أمرهم وأجزل جوائزهم، فأقاموا عنده خير إقامة في أكرم منزلة . فكان أول من رجع منهم:(1/35)
[إبراهيم بن إسماعيل]
إبراهيم بن إسماعيل طباطبا، وقد ولد له أكبر ولده بها، فصار إلى المدينة فأقام بها متخفياً حبيساً وولد له بقية ولده في اختفائه بها، ثم نزع إلى الكوفة يريد البصرة ومعه زوجته المحمدية - من ولد محمد بن الحنفية - وكان رجل من أهل الكوفة يَخِفُّ لهم في حوائجهم فلا يأتي بها موافقة وتظهر فيها خيانته، فاستراحوا منه إلى غيره واستعفوه من نفسه، فوشى بهم إلى عامل الكوفة، فأُخِذَ إبراهيم وطُرِحَ في المطبق، وفرَّ الرجل الذي وَشَى بهم من الكوفة فتبعه فتيان من أهلها حتى قتلاه بناحية الجبل - ولإبراهيم قصة سأذكرها إنشاء الله تعالى.
ثم خرج يحيى وإدريس من الحبشة فقدما فرع المسور ليلاً فأقاما به زمناً يتشاوران [إلى أين يخرجان] وأي بلد تحملهم وتخفيهم وتشملهم من الخوف، مثلما كان قد عزب عنهم وتناهى إليهم من خبر علي بن إبراهيم، وإبراهيم بن إسماعيل، والقاسم بن محمد بن عبدالله بن حسن، وموسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن.(1/36)