قال محمد بن علي باسناده: فلما وافى الحسين بن علي فخ، وقد كانت عساكرهم لقيته بسرف فحاجزهم مدافعا إلى قرب مكة ليصل إليه من أراده من أهل بيعته ومن واعده بها، أحاطت به العساكر.
وقد حدثني بذلك أبو زيد عن المدائني - علي بن محمد بن عبد العزيز بن عبدالملك بن عيسى - وأخبرنا سليمان بن موسى عن أبيه عن مشائخ أهل بيته وبعضهم يزيد على بعض، ومحمد بن القاسم بن إبراهيم قد أخبرني ببعضه، فاختصرت من ذلك حسبما رجوته من القصة مؤدياً.
قالوا: فتوافت العساكر على ما ذكرنا ولحقهم مفضَّل الوصيف، وأبو الورد، وصاعد في جيش كثيف، وحسن الحاجب، ومنارة، واستخلفوا على مكة عبيدالله بن قثم في جماعة كثيرة تمنع الحاج أن يتوجه منهم أحد إلى الحسين أو يكاتبه، وبثوا في الناس من ينهي إليهم أخبارهم، وقطعوا عليهم الطريق إلى الحسين، وحالوا بين كل أحد وبين الوصول إليه.
وقال الحسن بن عبد الواحد: قال الجعفري: صار يحيى بن عبد الله إلى مكة مستترا فوقف على الصفا فجعل ينادي رحم الله من يعرف الجمل الأحمر، قال: فكان يمر به من بايعه، فيعرفه يحيى، فيعرض عنه وقد رآه وسمع صوته .
قال الجعفري: وحدثني إدريس ويحيى بذلك، فأظن والله أعلم أنَّ القوم لم يكونوا يطمعوا في الوصول إلى عسكر الحسين، وما أظن ذلك لهم بعذر ، والله ولي العفو عن كل مقصر.
قالوا: فكان المتولي لتدبير الحرب يقطين بن موسى . فجعل محمدا وجعفرا ابني سليمان مع من حضر من آل سليمان بن علي ومفضلا الوصيف، وصاعدا في الميمنة، وجعل موسى بن عيسى، وحسن الحاجب، ومنارة في الميسرة ويقطين وأولاده في القلب، وذلك يوم التروية، فالتقوا فاقتتلوا بفخ يومهم ذلك.(1/27)
[كلام يحيى عليه السلام حين لقيتهم الجيوش]
قال الحسن بن عبدالواحد: حدثني أحمد بن كثير، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: سمعت الحسين ليلة الجمعة حين لقينا أصحاب يقطين، فابتدأ الحسين في كلامه - هذا حين لقيناهم - وهو على حمار إدريس والناس منصتون له فقال:
يا أهل القرآن ، والله إنَّ خصلتين أدناهما الجنة لشريفتان، وإن يبقيكم الله ويظفركم لنعملَنَّ بكتاب الله وسنة نبيه، ولنشبعنَّ الأرملة، وليعيشنَّ اليتيم، ولَنَعِزنَّ من أعزه كتاب الله وأوليائه، ولنذلنَّ من أذله الحق، والحكم من أعدائه، وإن تكن الخصلة الأخرى فأنتم تبعاً لسلفكم الصالح تُقْدِمُونَ عليهم وأنتم داعون إليهم: رسول الله ، وحمزة ، وعلي، وجعفر، والحسن والحسين، وزيد بن علي، ويحيى بن زيد ، وعبدالله بن الحسن، ومحمد وإبراهيم أبناء عبدالله. فمن أي الخصلتين تجزعون؟ فوالله لو لم أجد غيري لحاكمتهم إلى الله حتى ألحق بسلفي.(1/28)
[رواية أخرى]
وقد حدثني أيضاً: أحمد بن حمزة الرازي، قال: حدثنا أحمد بن رشيد عن سعيد بن خثيم الهلالي، قال: كنت مع الحسين صلوات الله عليه فاجتمعنا إليه قبل اللقاء، فقام فينا خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد: يا إخوتي ويا إخواني وشيعة جدي وشيعة أبي، ومحبي جدي رسول الله صلى الله عليه وآله فقد تبين لكم ظلم هؤلاء القوم وفسقهم وفجورهم وعداوتهم لله ولرسوله، وسيرتهم في أمة محمد، وارتكابهم المحارم، وتعطيلهم الحدود، وشربهم الخمور، وارتكابهم الشرور، وهتكهم الستور، واستئثارهم بالفيء ، وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف؛ دعاهم الشيطان فأجابوه، واستصرخهم فاتبعوه. يسيرون فيكم بسيرة القياصرة والأكاسرة، يقتلون خياركم، ويستذلون فقهائكم، يقضون بالهوى ، ويحكمون بالرشا، ويولون السفهاء، ويظاهرون أهل الريب والردى، يقلدون أمر المسلمين اليهود والنصارى، جبابرةً عتاة، يلبسون الحرير، وينكحون الذكور. فكيف لا يغضب أولو النهى؟ أم كيف يسيغ الطعام لأهل البر والتقوى؟. قد دُرِسَ الكتاب فأوّل على غير تأويله، وغنيَ به على المعازف؛ فحُرِّف عن تنزيله، فلم يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. فلو أن مؤمنا تقطعت نفسه قطعاً أما كان ذلك لله رضا؟ بل كان بذلك عندي جديرا. فروحوا بنا إلى الله واصطبروا لله، فوالله إنَّ الراحة منهم ومن المقام معهم في دارهم لراحة، والجهاد عليكم فريضة، فقاتلوهم فإنَّ الله قد فرض عليكم جهادهم، واصبروا أنفسكم فـ ?إنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنَّهم بنيان مرصوص?، وكونوا ممن أحبَّ الله والدار الأخرة؛ باين أعداه وأحب وآثر لقاءه، عصمنا الله وإياكم.(1/29)
[رواية أخرى]
وحدثني هارون الوشاء، قال: حدثني عبدالعزيز بن يحيى الكناني - ويقال أنه كان من الدعاة إلى يحيى بن عبدالله - قال: لما صار الحسين بفخ خرج يحيى على فرسه يحرض الناس، فقال بعدما حمد الله: أبشروا معشر من حضر من السلمين فإنَّكم انصار الله وأنصار كتابه وأنصار رسوله وأعوان الحق وخيار أهل الأرض وعلى ملة الإسلام ومنهاجه الذي اختاره لأنبيائه المرسلين وأوليائه الصابرين، أوَمَا سمعتم الله يقول: ?إنَّ اللَّه اشْترَى مِن المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُم?. إلى قوله تعالى: ?وَبشِرِ المُؤمِنِين?[ التوبة: 111].
ثم قال: والله ما أعرف على ظهر الأرض أحداً سواكم إلا من كان على مثل رأيكم حالت بينكم وبينه المعاذير. إما فقير لا يقدر على ما يحتمل به إلينا فهو يدعو إلى الله في آناء ليله ونهاره. أو غنياً بَعُدَتْ داره منا فلم تدركه دعوتنا، أو محبوس عند الفسقة وقلبه عندنا، ممن أرجو أن يكون ممن وفى لله بما اشترى منه. فما تنتظرون عباد الله بجهاد من قد أقبل إلى ذُرِّيَة نبيهم ليسبوا ذَرَارِيهم ويجتاحوا بقيتهم؟. ثم قال: اللهم احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.(1/30)
[عرض أمان]
قال فبرز للقتال، ووجَّه إليه موسى بن عيسى وإلى جميع أصحابه يعرض عليهم الأمان.
فقال الحسين: وأيُّ أمان لكم يا فجرة؟ المغرور من غررتموه بأمانكم، وكيف لا وأنتم تغرونه عن دينه بحياة يسيرة؛ تطمعونه فيها فإذا ركن إليها قتلتموه. أليس من وصية آبائكم زعمتم قتل كل متهم ومن سأل الأمان عند الظفر به؟.
فخرج إليه جميع من حضر من بني العباس ومواليهم والجند ونقضوا إحرامهم ثم لبسوا الأقبية، وبعثوا إليه بأمانه وبذلوا له مالاً فأبى إلا قتالهم، أو الرجوع عمَّا هم عليه من الإثم والعدوان ومعاونة الظالمين.
قال: فشدوا عليه عندما يئسوا من خديعته بأمانهم، وحملوا عليه وعلى أصحابه حملة شديدة، فثبتوا لهم وقتل منهم جماعة.
فحدثني محمد بن القاسم بن إبراهيم - وكان إبراهيم بن إسماعيل طباطبا ممن خرج مع الحسين - قال: كان محمد بن سليمان بن علي ممن بُعِثَ مع موسى بن عيسى، وكانت أمه حسنية وهي زينب ابنة جعفر بن الحسن بن الحسن.
قال: فلما تصافوا بفخ خرج محمد من عسكر المسوِّدة فلقي الحسين وسلم عليه وقال:
والله يا خال ما أشخصني إلى هذا البلد إلا الشفقة عليك والظن بك، ورجاء أن يحقن الله دمك.
فقال له الحسين: ما أعرفني بما تحاول من خديعتي من ديني ودنياي؟ إليك عني.
فقال له: يا خال لا تفعل. أقْبَل نصيحتي ولا تُعَرِّض نفسك للهلكة، فإنَّ معي كتاباً قد أخذته لك من ابن عمك الخليفة موسى الهادي ابن محمد المهدي بأمانك، وجعل إليَّ أنْ أعرض عليك كل ما أحببت. فصر إلى أيِّ بلد من البلدان شئت، وسمِّ ما شئت من الأموال والقطائع والضياع.(1/31)