قال: فانصرف الحسين بن علي فركب حتى أتى سويقة، فبعث إلى الحسن بن محمد فجاءه، واجتمع إليه: آل عبدالله بن الحسن، يحيى بن عبدالله بن الحسن، وإدريس، وسليمان، ومن حضر منهم، فقال الحسين للحسن: قد بلغك يابن عم ما كان بيني وبين هذا الفاسق.
قال [الحسن بن محمد]: فامضِ - جعلت فداك - لما أحببت، إن أحببت جئت معك حتى أضع يدي في يده الساعة.
فقال له الحسين: ما كان الله لِيطَّلِع عليَّ أنْ يكون محمداً صلى الله عليه وآله حجيجي غداً في دمك، ولكني أقيك بنفسي.
ثم تشاور القوم، وبعث إلى موسى بن جعفر فحضر، وإلى عبدالله بن الحسن الأفطس، فاجتمع رأيهم جميعاً على أن لا يعطوا بأيديهم، وأن يبلوا عذراً في جهادهم. إلا أن موسى بن جعفر قال: أنا ثقيل الظهر ولو خرجت معكم لم يتركوا من ولدي أحداً إلا قتلوه، فاجعلوني في حلٍّ من تخلفي عنكم. فعرفوا عذره، فجعله الحسين في حلٍّ، فودَّعهم، وقال لهم: يابني عمي أجهدوا أنفسكم في قتالهم وأنا شريككم في دمائهم فإن القوم فُسَّاق، يسرون كفراً ويظهرون إيماناً.(1/21)
[بيعته عليه السلام]
قال: فقال الحسين بن علي ليحيى: هَلُمَّ نبايعك.
قال له يحيى: أنت أحق بالبيعة مني، لأنك الممتحن به دوني، وأنا لك عون حتى يقضي الله من أمرنا ما هو قاض.
فبايعه: يحيى، وإدريس، وسليمان بنو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وعلي بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وعبدالله بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الأفطس - وكان أسد بني هاشم وأشجع أهل زمانه - وبعثوا إلى فتيانهم فأتوهم، فبايعه جميعهم،[و] منهم:
إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن.
والحسين بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن.
والحسن وطاهر ابنا محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن.
وطاهر بن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن.
وحمزة بن عبدالله بن محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
فاجتمع من أنفسهم خمسة عشر رجلا، ومن مواليهم خمسة وعشرون رجلا فصاروا أربعين رجلا. ثم جاءهم بَعْدُ من أفناء الناس من له بصيرة ومأثرة نحوا من خمسين رجلا فصاروا تسعين رجلا، فلم تمنعهم قلَّتُهم من النهوض لما أوجب الله عليهم من الوفاء بالبيعة، والمدافعة عن الذي وجبت المدافعة عنه.(1/23)
[اظهار البيعة في المدينة، وبداية المواجهة المسلحة]
فانطلقوا بعدما أذن المؤذن الصبح حتى دخلوا المسجد ثم نادوا: أحدٌ أحدا - وذلك كان شعارهم - ومضى الحسين بن علي بمن معه حتى جاوزوا دار الإمارة وأصْلَتُوا سيوفهم، وصعد عبدالله بن الأفطس إلى المنارة التي إلى عند رأس النبي صلى الله عليه وآله عند موضع الجنائز، وقال للمؤذن: أذن، وقل في أذانك: حي على خير العمل، فتَمنَّع، فلما رأى السيف مصلتاً أذَّن برعب، وسمعها العمري فاقتحم دار عمر بن الخطاب، ثم خرج في زقاق عاصم حتى نفذ منه هاربا، ولم يُطلب.
وصلى الحسين بالناس الصبح وبعث إلى أهل العدالة من أهل المدينة، وفتح دار مروان - وهي: دار الإمارة - ودعا الحسن بن محمد فأدخله الدار، ثم قال للشهود: هذا الحسن بن محمد قد وافيت به الدار قبل الزوال فاشهدوا، وخرج من يمينه التي استحلفه بها العمري أن يوافيه به.
قال: وقال للشهود: دلوني على العمري حتى أسَلِمُهُ إليه - لأنه استحلفه على ذلك.
وبعث الحسين إلى أصحاب العمري: من أحب أن يدخل في هذه البيعة ويعيننا على عدو الله وعدونا فعل. وبعث إلى من بالمدينة من آل أبي طالب فامتنع عليه الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
حدثنا عيسى بن مهران، قال: حدثنا محمد بن مروان، قال: حدثنا أرطاة بن حبيب، قال:كان بيعة الحسين بن علي الفخي صلوات الله عليه: أبايعكم على كتاب الله وسنة نبيه، والعدل في الرعية، والقسم بالسوية، نحل ما أحل القرآن والسنة العادلة، ونحرّم ما حرم القرآن والسنة العادلة، ونكون على ذلك أعواناً بجهدنا وطاقتنا، وتجاهدوا عدونا وتفلحوا معنا، فإنْ وفينا لكم وفيتم لنا وإنْ خالفنا فلا طاعة لنا عليكم، وعليكم عهد الله أن تجاهدونا فيمن جاهدنا إن نحن خالفنا، ثم قال: اللهم اشهد.(1/24)
قال: ولحق العمري بخالد البربري - وكان عاملا على الصوافي، وكان فارسا أحد رجال السلطان - فأقبل خالد مع العمري في ستة مائة فارس وألف راجل حتى اقتحم المسجد يقدم أصحابه قد اعتم بعصابة حمراء على بيضته، واقتحمت خيله المسجد فانحاز أصحاب الحسين كلهم ناحية إلا ولد أبيه، ودخل إدريس بن عبدالله وموليان له، ودرباس الخزاعي ورجلا من جهينة من ناحية المصلى ينادون: أحدا أحدا. والحسين على المنبر لم يزل، فضرب إدريس صاحب الصوافي وعرقب فرسه فخر صريعا، وضربه يحيى وسليمان فشتركوا في قتله، ومالوا على أصحابه فأخرجوهم من المسجد، وقتلوا منهم جماعة، ولم يتبعوا أحدا أدبر. وفي ذلك اليوم يقول العمري: أطعموني حبتين ماء. فسمى: بحبتين ماء. فلا يعرف إلا به.
وأقام العمري مع ذلك الجمع ومن انضم إليه ثلاثة أيام يحاربون الحسين، ومع العمري: الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن وجماعة ممن تثاقل عن الحسين.
وُقتِل من أصحاب العمري جماعة ومن أصحاب الحسين نفير، وغلب الحسين على المدينة وأخذ بيت المال، فوجد فيه ثلاثة آلآف ألف ، فقسمها على الفقراء والمساكين.
كما أخبرني أبو زيد عمر بن شبه عن المدائني، وقد بلغني: أن الهادي ارتجع بهذا المال على أهل المدينة، وأدى ذلك لما تقرر عنده أن الحسين لم يستأثر من المال شيئا حتى امتدح بعض شعراء المدينة العمري، واستعفاه أن يلزمه وعشيرته من غرامة المال بشيئ فأعفاه عن ذلك بشعر قد ذكر لي.
قال أبو عبدالله: وبايع الحسين نحوا من ثلاثين ألف رجل من أهل البصائر والنيات والمشهورين بجميل الديانات وغيرهم، وواعدهم عرفات وجعل الإمارة بينه وبينهم صاحب الجمل الأحمر، وكاتب أهل الأمصار فلم يتثاقل عنه ذو نهضة، إلا أن ميعاد جميعهم مكة.(1/25)
[توجه الحسين بمن معه إلى مكة]
وتوجه الحسين بمن معه من أهل بيته وأصحابه عند وقت الحج إلى مكة واستخلف على المدينة درباس الخزاعي كما أخبرني.
قال: وكان الحسين في أربع مائة رجل ليس معهم فرس إلا فرس يحيى بن عبدالله بن الحسن. ووجهه إليه الهادي بجيوش تترا جيشاً في أثر جيش، قال: فوجَّه محمداً وجعفراً ابني سليمان في جند البصرة، والخولي والعباس بن محمد، وموسى بن عيسى في جيش كثيف وأتبعهم بعُبَيد بن يقطين في أصحابه، وأمدهم بجيش آخر مع حسن الحاجب، وأردفهم بمبارك التركي إلا أن مباركا تثاقل عن إدراكهم شيئا. وكان مبارك التركي قريبا من المدينة في جيش كثيف،فأقبل، ولقي الحسين يوم الثالث من خروجه، فدخل المدينة وخرج إليه أهل المدينة فكلموه في أن يقاتل، فقاتل يوما إلى الزوال. فكانت حربهم سِجَالا، ثم انصرف عنه فكلمه أهل المدينة فوعدهم ثم مضى لم ينصر، ولم يحارب، ولم يحضرهم في حروبهم، فنقم ذلك موسى الهادي على مبارك.
فأخبرني أبو زيد، قال: حدثني المداني قال: حدثني عبدالرحمن بن يقطين، قال: حججت أنا وجماعة اخوتي ذلك العام فحضرنا وكان عُبَيْد بن يقطين في بقية من علة كان وجدها فأتاه حجر فأصاب وجهه فأدماه شيئاً، فدعا بقوسه فأوترها فرمى سليمان بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي فقتله.
قال: فلقد رأيت أباه يقطين بن موسى وكان حاضرا مشمراً وهو يقول سيعلم الناس اليوم، يقطين طالبي أو عباسي، فمرة يقبل على عباس بن محمد فيقول: عزما يابن ساداتي، ومرة ينحرف إلى موسى بن عيسى فيقول: قدماً يابن المنعمين عليَّ، ومرة يقول لعبيد: إيهَاً فداك أبي وأمي. حتى انقضت الحرب، وحُزَّ رأس الحسين بن علي صلوات الله عليه، فتسلمه يقطين وبنوه فقدموا به على موسى بن عيسى. وعلي بن يقطين وزيره، فقال: لهم موسى أسرعتم كأنَّكم أتيتم برأس طاغوت، أما إنَّ أقل ما أجازيكم به أني أحرمكم جوائزكم. قال عبد الرحمن: فحُرِمناها.(1/26)