قال: كان يجب عليَّ أن أرد على أبي البختري ما ادعى من أنَّ ذلك الحرف ينقضه وقد كذب في ذلك. قالوا: لو تكلمت لأمر بقتلك. فلم يزل محمد في قلبه من ذلك شيء حتى مات.(1/112)


[إيقاع الرشيد بالبرامكة، وموت يحيى (ع)]
قال المكي: فأخبرني الثقة أن جعفر بن يحيى حبس يحيى بن عبد الله عنده مدة حتى سأله هارون عنه فأخبره بسلامته، فقال هارون: ما أطول حياته!، فعلم جعفر أنه يريد منه أن يقتله، فأخرجه ليقتله فجعل جعفر يقول: واشقاآه فكيف ابتليت بقتل يحيى من بين هذا الخلق؟.
فقال له يحيى بن عبد الله: اسمع مني - أصلحك الله - شيئاً تكون لك السلامة في الدنيا والآخرة؛ أعطيك من العهود والمواثيق ما تسكن إليه نفسك، إنك إن تركتني خرجت حتى أدخل بلاد العجم، أو قال: الروم، ولا أخبر أحدا باسمي ولا نسبي إلا أني أذْكر لهم أني رجل من المسلمين جنيت جناية فخفت على نفسي فلحقت ببلادك، فإن أبى أنْ يقبلني وقتلني يكون قتلي على يدي مشرك، وإن أمنني ولم يقتلني لم أخرج من بلادهم أبدا ما دام صاحبك في الحياة. وإن أمت قبله رجوت أن يقبل عذري، وإني لم أختر دار الشرك على دار الإسلام إلا أنه حيل بيني وبين ذلك، وأنِّي فَرَرت من العذاب والقتل. فإن رأيت وفقك الله أن لا تعجل وتنظر فيما سألتك، وتعرضه على قلبك، فإنَّك إن كنت محتاجاً إلى رضا هارون فإنَّك محتاج إلى رضا الرحمن، فانظر لنفسك قبل يوم الحسرة والندامة، فإنَّ نعيم الدنيا وشيكاً سيزول عنك وعن صاحبك، فاشتر من الله نفسك بإحياء نفس من ذرية رسول الله؛ تستوجب بذلك عند الله الزلفى وحسن المآب، واحذر أنْ تلقى الله بدمي، مع معرفتك بأني محرج مظلوم لا ناصر لي إلا الله، وكفى بالله من الظالمين منتقماً.
قال: فأمر جعفر برد يحيى إلى الحبس، ووقع كلامه في قلبه، فلمَّا كان بالليل أرسل إلى يحيى، فقال له: إنَّ كلامك قد وقع في قلبي، وإنَّ للناس قبلي مظالم كثيرة، وإنَّ لي من الذنوب العظام والكبائر الموبقات مالا أطمع معها في النجاة والمغفرة.(1/113)


فقال له يحيى: لا تفعل، فإنه ليس ذنبٌ أعظم من الشرك، وقد قال الله في محكم التنزيل للمسرفين الذين أسرفوا في الشرك في معادة النبي وقتل أصحابه: ?قل يَا عِبَادِيَ الَّذِيِنِ أَسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِم لاَ تَقْنَطُوْا مِن رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إنَّه هُوْ الغَفُورُ الرَّحِيم وَأَنِيبُوْا إلى رِبِكُمِ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أنْ يَأَتِيَكُم العَذابُ ثُمَ لاَ تُنْصَرُوْن?[الزمر: 53،54] ، فأمر بالإنابة والتوبة، والله تبارك وتعالى يغفر لمن تاب وإنْ عَظُم جرمه.
قال: فتضمن لي المغفرة إنْ أنا خليتك؟.
قال له يحيى: نعم. أضمن لك ذلك على شريطة.
قال جعفر: وما هي؟
قال: تتوب من كل ذنب أذنبته بينك وبين الله، ثم لا تعود في ذنب أبداً، وأما الذنوب التي بينك وبين الناس فكل مظلوم ظَلمْتَهُ ترد ظِلامته عليه. فإنَّك إذا فعلت ذلك، وأديت الفرائض التي لله عليك غفر الله لك، وأنا الضامن لك ذلك.
قال: فعزم جعفر على تخليته، وأخذ على يحيى العهود والمواثيق؛ بأنْ يمضي من فوره ذلك حتى يدخل إلى بلاد الروم، وأن لا يخبر أحد باسمه ولا نسبه، ولا يستصحب أحدا، ويقيم في بلاد الروم ما دام هارون حيا، إلا أن لا يجد سبيلاً إلى الوصول إلى بلاد الروم. فحلف يحيى على تلك، وكتب له جعفر بن يحيى منشور لا يعرض له، وأن يحتال له في الدخول إلى بلد الروم سراً وحده لأمر مهم، وينفذ من يومه إذا وصل إن شاء الله، وأخرجه ليلاً.
قال: وكان عم جعفر محمد بن خالد بن برمك عاملاً على ثغور الروم، فمر يحيى من فوره ذلك حتى أتى ثغر المصيصة فأُخِذَ بها، وأتي به إلى محمد بن خالد بن برمك فلما نظر إليه وتأمله، قال: أنت يحيى بن عبد الله، فأنكر ذلك وتهدده وضربه فأنكر وأخفى خبره.
وقال: هذا يحيى؛ دفعه هارون إلى جعفر ليقتله فأطلقه، وإنْ بلغ هارون إطلاقه كان فيه هلاك آل برمك.(1/114)


فخرج به يتنطح إلى هارون، يطوي المنازل حتى وافاه بمكة، فدخلها ليلاً ومعه سبعة أبعره، فمضى حتى صار إلى دار الفضل بن الربيع، فاستأذن عليه من ليلته.
فقال له الفضل: تركت عملك وجئت؟.
فقال: إنَّ الأمر الذي جِئتُ له أعظم من أن يذكر معه عملاً.
قال: ما هو؟
قال: هذا يحيى بن عبدالله معي.
قال له الفضل: قد مات يحيى.
قال: هذا يحيى معي.
- وكان الفضل عدو البرامكة - فقال له محمد بن خالد بن برمك: أعلم أمير المؤمنين بمكاني، وانظر أن لا يعلم بي أحد فإنَّه إنَّ عَلِمَ بي جعفر خفت أنْ يغتالني.
قال: فأخبر الفضل هارون بأمر يحيى، قال: فأقلقه ذلك، فوّجه إلى هرثمة فأُحضر وإلى محمد بن خالد وغيرهما فشاورهم، فقال له هرثمة: يا أمير المؤمنين إنك في موسم مثل هذا ولا آمن إن أحس جعفر بأمر يحيى وخيانته فيه استقتل وعمل في صرف الخلافة.
قال: فما الرأي؟
قال: أنْ تضرب عنق هذا القادم عليك وكل من معه من الغلمان والحشم لئلا يخرج خبره. وتأمر بيحيى تطوي به المنازل إلى بغداد طيّاً، وتظهر لجعفر من اللين والكرامة أضعاف ما كان له عندك، فإذا دخلت بغداد قتلت جعفراً وجميع البرامكة واستبدلت بهم.
قال: ففعل هارون كل ما أشار به هرثمة، إلا قتل محمد بن خالد فإنه استبقاه، وقدم بغداد فقتل جعفراً، والفضل، وحبس يحيى بن خالد، واستصفيت أموالهم، وقتلت رجالهم.
وأحضر يحيى بن عبد الله، فقال: يا يحيى ألم يكفك ما صنعت؟! حتى أفسدت عليَّ وزرائي، والله لأقتلنَّك قتلةً تحول بينك وبين إفساد أحد علي.
فقال يحيى: اتق الله يا هارن وراقبه فإنَّك عن قليل لاقيه وهو سائلك عن نقض ما أعطيتني من العهود ولمواثيق المأخوذة لي عليك، فلا تك ساهياً عن عقاب الله، غافلاً عن وعده ووعيده؛ كأنك لا ترجوا من الله ثواباً ولا تخشى عقاباً، تعمل أعمال الفراعنة وتبطش بطش الجبابرة، خليلك ووزيرك من اتبع هواك في معصية الله، وعدوك من دعاك إلى طاعة الله.(1/115)


حسبك يا مغرور ما احتملت من الأوزار، وارجع إلى الله، فإنَّه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما في الصدور.
قال: فدفعه الرشيد إلى مسرر، وقال: يكون عندك حتى أسألك عنه. فلما خرج إلى خراسان الخرجة الأولى نزل قرية من قرى الرَّي يقال لها: أرنبوية، أمر أن يحفر قبراً من ناحية المقابر ويترك.
فسمعت جماعة من أهل ناحية (أرنبوية) منهم: أحمد بن حمزة، والحسين بن علي بن بسطام وغيرهم من أهل مدينة الري، والحسن بن إبراهيم بن يونس، كلهم يخبر عن الحفارين الذي حفروا القبر. قالوا: أُمرنا أنْ نحفر قبراً طوله كذا وعرضه كذا، ولا نجعل له لحداً ففعلنا وظننا أنهم يدفنون فيه مالاً، فصعدنا على شجر كانت في المقبرة لننظر ما يدفن، فلما مضى من الليل نصفه إذا بنفر عليهم ثياب بيض وفارس يركض وهو يصيح خذوه خذوه، يوهم من كان هنالك أنه قد رآه. فسكتنا حتى وقفوا على القبر، فإذا رجل مكبل بالحديد على بغل، ومعهم تابوت على بغل آخر، فوضع صاحب التابوت التابوت في القبر وانصرف، وجاء القوم فأنزلوا الرجل من البغل وأدخلوه التابوت، فإذا هو يقول: يا هارون اتق الله ما يشفيك قتلي دون عذابي، أيُّ دَرك لك في عذابي. فيقول له الملك: عظيم هيبته، اطرحوه الآن في التابوت.
فما زال يناشده الله والرحم حتى واراه التراب، ثم انصرفوا.
فقلنا: والله لو لم نحضر ما كان علينا من دمه، فإنْ أغفلناه كنا شركاؤه في دمه، فنزلنا من الشجرة وأخذنا المساحي، ثم عالجناه حتى أخرجنا التابوت فاستخرجناه منه وبه أدنى رمق، فذهبنا به إلى النهر، فغسلناه في الماء حتى عادت إليه نفسه. ثم عُدْنا إلى القبر فسويناه كما كان وصرنا بيحيى إلى منازلنا.(1/116)

23 / 24
ع
En
A+
A-