[رواية أخرى]
حدثني علي بن مسعود المصري عن رجل قد سماه واسمه عندي مثبت في كتبي، قال: ركبنا في مركب من الموصل نريد بغداد، قال: فجرى حديث يحيى بن عبد الله. فقال قوم: قتلوه بالسيف. وقال قوم: قتلوه جوعاً، في المطبق. قال: كان معنا خادم له هئية وشارة، فقال: إياي فاسألوا، فإني أخبركم أمر يحيى كيف كان موته وقتله؛ دفعه إليَّ هارون، فكان يسألني عنه كل يوم، فأقول: هو بخير. فقال لي يوماً: ويلك لولا أنه قد خدعك كيف يكون عدوي معك بخير.
فعلمت ما يريد، فقلت: هذا عدو أمير المؤمنين وكل من كان عدواً لأمير المؤمنين فهو كافر.
فقال لي: اذهب فأدخله بيتاً ليس فيه طعام ولا شراب، ثم أغلق عليه الباب ثلاثة أيام. ففعلت.
ثم قال: افتح الباب فانظر ما حاله؟.
ففتحت الباب فإذا هو قائم يصلي، فتعجبت. ثم رجعت فأخبرت هارون، قال: اذهب ففتش البيت لا يكون فيه شيئاً لا تعرفه، ثم أغلق الباب عليه. ففعلت، ثم أتيته بعد ثلاث، فقال: افتح عليه فانظر ما حاله؟. ففتحت عنه فإذا هو قائم يصلي، إلا أنه قد ضعف. فرجعت إلى هارون فأخبرته، فقال: أخاف أن تكون قد غششت فلم تنصح، اذهب ويلك ففتشه، وانظر كيف يعيش إنساناً لا يأكل ولا يشرب أياماً كثيرة، والله لئن أثرت به أثراً لأضربن عنقك.
قال: فرجعت وفتحت الباب وقلعت ثيابه وعريته فلما هممتُ بقلع السراويل؛ قال: ويلك احفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه فإنه ما رأى عورتي أحد قط. فاستعنت عليه بأصحابي، وحللنا سراويله، فإذا بين فخذيه أنبوبة قصب فيها سمن، كلما أجهده العطش مص منه شيئاً فيمسك رمقه. قال: فأخذناها وخرجنا وأغلقت الباب ورجعت إلى الرشيد. فقال: اتركه ثلاثاً، ثم انظر ما حاله. فجئته بعد ثلاث فإذا هو ساجد ميت. فرجعت إلى هارون فأخبرته. فقال: اذهب فأشهد عليه بعد أنْ تمدده وتسجيه.(1/107)


قال [يعني الراوي]: وكان معنا شاب له سمت، فخَفَّ لذلك الخادم حتى إذا انفرد الخادم على جانب المركب يريد الخلوة للحاجة قصد به الفتى موضع جرية الماء وجذبه ثم دفعه ورمى بنفسه خلفه، فمازال يغطُّه حتى غرق. فقلنا له وقد خرج إلى الأرض: ويلك يا عدو الله قتلت الرجل؟
فقال: يا أعداء الله ألم تسمعوه يقول: أنا قتلت ابن رسول الله بالجوع والجهد، ثم لم تنكروا عليه؟ ويّلي عليكم لو قدرت على قتلكم لقتلتكم.(1/108)


[رواية أخرى]
وأخبرني أبو هاشم ابن إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن الحسن بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عن حمزة بن القاسم عن أبيه عن علي بن إبراهيم، قال: تذاكرنا يوماً عند عمر بن فرج الرخجي أمر يحيى بن عبد الله، فقال عمر بن فرج: حُدثنا عن مسرور الخادم، قال: أتى يحيى وهارون بالرافقة وعنده عبد الله بن مصعب الزبيري، فقال الزبيري: يا هارون إنَّ هذا وإخوته قد أفسدوا علينا مدينتنا.
فأقبل عليه يحيى فقال: ومن أنتم عافاك الله؟
فجرى بينهما من الحديث ما قد ذكرناه، حتى أنشد يحيى هارون الشعرين الذين قالهما الزبيري في محمد رحمه الله فاسود وجه الزبيري وتغير وانتفى أن يكون قال من هذا شيئاً. فقال يحيى: يا أمير المؤمنين إن كان صادقاً فليحلف بما أحلفه. فأمره هارون أن يحلف.
فقال له: قل بَرَأني الله من حوله وقوته، وَوَكلني إلى حولي وقوتي، إنْ كنت قلت هاتين القصيدتين.
قال: ايش هذه من الأيمان؟ أنا أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وهو ويحلفني بشيء ما أدري ما هو.
فأمره الرشيد أن يحلف، فحلف. فما أتى عليه إلا ثلاثاً حتى مات، فأمر الرشيد أن يُدفن فدفن فانخسف القبر، ثم سوى ثانية، فانخسف القبر، ثم سوى ثالثة، فانخسف القبر. فأمر هارون أن تضرب عليه خيمة. فما زالت مضروبة على قبره.(1/109)


ثم دفع يحيى إلى مسرور فكان يسأل عن خبره، فقال له يوماً: انظر ما يصنع؟ فنظر، فإذا هو يطبخ قدراً له عربية أو مدينية، فوصف صفتها، فقال: نعم هذه قدرنا، فخذ غضارة، واذهب إليه، فقل له: يقل لك أمير المؤمنين أطعمنا من قدرك. فأخذ القدر فأفرغها في الغضارة، فجاء بها، فدعى هارون بالمائدة والخبز، فأكلها حتى جعل يلعق أصابعه، ثم قال: ارجع إليه، فقل له: زدنا. فقال مسرور: والله يا أمير المؤمنين ما خلَّف في القدر شيئا. قال: فاذهب إليه فقل له: ليفرج همك وروعك فإنه لا بأس عليك. فرجعت إليه فأخبرته بما قال، فقال يحيى: وكيف يفرج روعي وأنا أعلم أنه قاتلي؟. فرجعت إلى هارون، فقال: ما قال لك؟ فأخبرته، قال: فاذهب فضيق عليه. فذهبت، فجعلته في بيت ليس فيه طعام ولا شراب، ثم جئته بعد أيام، فإذا هو في محرابه يصلي، فأخبرت هارون، فقال: فعل الله بك، غششتني. فحلفت أني ما فعلت، قال: فاذهب ففتشه، فجئته فامتنع، فاستعنت عليه، فإذا تحت باطن قدمه شَكوة فيها سمن، فنزعناها وخرجت وسددت عليه، ثم أخبرت هارون، وتركته أياماً، ثم جئته انظر ما حاله، فإذا هو ميت في محرابه، فأخبرت هارون. فذكر نحو القصة التي ذكرناها آنفا.(1/110)


[رواية موته، ونقض الأمان]
وأما هارون الوشاء، فقال: حدثني عبد العزيز بن يحيى الكناني، قال: جمع هارون الفقهاء فكان فيمن أُحضر محمد بن الحسن، والحسن بن زياد، قال: وكنت فيمن حضر. وَأًحضر من القرشيين جماعة من ولد أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وأبو البختري، وأحضر أمان يحيى، فدفع هارون الأمان إلى محمد بن الحسن، ويحيى في الحديد حاضر.
فقال: يا محمد انظر في هذا الأمان، هل هو صحيح؟، أو هل في نقضه حيلة؟.
فقرأه ثم قام قائما، فقال: يا أمير المؤمنين أمان صحيح، ما رأيت أماناً قط أصح منه، ولا ظننت أنَّه بقي في الدنيا أحد يُحسن أن يكتب مثل هذا، ولو كلفت أنْ أكتب مثله ما أحسنت.
قال: فغضب هارون حتى انتفخت أوداجه وتقطعت أزراره، وأخذ دواة بين يديه فضرب بها رأس محمد فشجَّه. فذكر القصة.
ثم كان آخر ذلك دفعه إلى الفضل بن يحيى - ولم يقل إنَّ أبا البختري قال فيه حيلة - ولكن لَماَ رأى أبو البختري هارون قد غضب، قال: ردوا عليَّ الأمان - بعد ما كان قد نظر فيه وصححه - فردوه عليه فوضع يده على حرف، فقال: هذا آخره ينقض أوله، أقتله ودمه في عنقي.
فقال له يحيى عليه السلام: يا ملقوط، أما والله لقد علمت قريش انه مالك أبٌ يعرف، فلو استحيت من شيء لاستحيت من ادعائك إلى من ليس بينك وبينه رحم، مع أن من تُدعي إليه عبد لبني زمعة.
ثم قال: يا هارون اتق الله فإنه لا ينفعك هذا وضرباؤه، ?يَومَ لاَ يَنْفَعُ الظَالِمِين مَعْذِرَتُهُمْ وَلهَم اللَّعْنَةُ وَلَهُم سُوء الدَّار?[غافر: 52] .
فقال هارون: انظروا هذا ينقض ما أعطيته من الأمان.
فقال يحيى: ما جزعك من اسم سمَّاكه أبوك، وقد كان يقال لرسول الله: يا محمد، فما ينكره، وهو رسول رب العالمين.
قال: فدفعه إلى جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك.
وخرجنا من عنده، فبكى محمد بن الحسن، فقلنا له ما يبكيك؟ فقال: أخاف العقوبة من الله.
قالوا: أليس قد أعذرت حتى خفنا أن يأمر بقتلك؟.(1/111)

22 / 24
ع
En
A+
A-