[حبس يحيى (ع) ومحاولة الإخبار عن أصحابه، وموته]
وقد أخبرني موسى بن عبد الله عن بعض أهله، قال: إنَّ رجلين من أفضل أهل زمانهما، وأفضل أهل عصرهما، أحدهما من ولد الحسن والأخر من ولد الحسين لا يوقف على موتهما ولا على قتلهما. كيف كان موسى بن جعفر، ويحيى بن عبد الله.
قال المدائني عمن أخبره: قال دفع هارون يحيى إلى خادم يقال له: أسلم - أبو المهاصر - فحبسه عنده.
قال: وكان الرشيد يركب حماراً ويدور في القصر فيسأل أسلم عن خبره فيخبره، فقال له يوماً: إنه يطبخ قدراً في كل يوم بيده، ووصف له صفتها. فقال الرشيد: هذه قدرنا مدينية. فاذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: أطعمنا من قدرك.(1/102)


قال: فأتاه، فقال له. فأخذ قصعة له من خشب فغسل داخلها وخارجها ثم غرف أكثر القدر وبعث به إليه. فلما جاءه به أمر أن يؤتى بخبز فأكل به حتى بقيت قطعت بصل في جنب القصعة فأتبعها بلقمة حتى أخذها، ثم دعا مسروراً الكبير، فقال: احمل إلى يحيى ألف خلعة من كل فن سري من الثياب الفاخرة مع ألف خادم؛ فأره كل خلعة ثلاثة أثواب، وانشرها كلها عليه وعرفه أثمانها ومن أهداها لنا. وقل يقول لك أمير المؤمنين: جعلناها لك مكافئة على ما أطعمتنا، حتى تأتي على آخرها.
قال: فأتاه مسرور بالخلع والخدم، وأبلغه الرسالة وهو مطرق ما ينطق ولا ينظر.
قال: وأحس يحيى صلى الله عليه بالشر منه لما أتاه بذلك، وأيقن أنه معذب مقتول.
قال: فرفع رأسه، فقال: قل لأمير المؤمنين إنما ينتفع بهذا من له في الحياة طمع ونصيب، ومن كان آمناً على نفسه راجياُ لبقائه، فأما المحبوس المقهور الخائف المأسور، المرتهن بسعايا البغاة بغير ما جنت يداه. فاتق الله يا هارون ولا تسفك دمي واحفظ رحمي وقرابتي فإني في شغل عما وجهت به إليَّ.
قال مسرور: فرققت له، ثم رجعت إلى نفسي وقلت: لا ولاكرامة، لا أقول لأمير المؤمنين من هذا شيئاً.
فقال يحيى صلوات الله عليه: هذا من ذاك الذي أتخوفه واشفق منه. وعاد مسرور إلى الرشيد فأخبره بكل ما قال.
فقال له: فما قلت له؟ فأخبره بما قال. قال: أصبت، وأمره أن يرجع إليه، ويقول له: يقول لك أمير المؤمنين إن أحببت أن أطلق عنك؛ فأخبرني بأسماء السبعين الذين أخذت لهم الأمان لِيَعْلَمَ أنك بريٌ مما سُعِيَ إليَّ فيك؛ فإنك إن فعلت أخرجتك من حبسي وأجزأتك بألف ألف دينار، وأقطعتُك من القطائع، وأعطيت أصحابك من الأموال كذا وكذا، وأنزلتهم من البلاد حيث شاؤا.
قال مسرور: فلمَّا قلتُ له ذلك، قال: قل له: يا هارون إلهَ عن ذكر أولئك؛ فإنَّك لو قَطَّعتني إرباً إرباً لم يرني الله أشركك في دمائهم، ولو أعطيتني جميع ما في الأرض ما أنبأتك باسم واحد منهم، فاصنع ما بدا لك، فإنَّ الله بالمرصاد.(1/103)


[موت يحيى عليه السلام]
قال المدائني: وقال هارون يوماً لأسلم: كيف ضيفك؟
قال : صالح. قال: لا أصلح الله حالك.
حتى قال ذلك له مراراً في أوقات مختلفة، فبقي أسلم لا يدري ما معنى كلامه، فأتى مسروراً الكبير، فقال: إنَّ أمير المؤمنين كُلما سألني عن ضيفي قلت: صالح، قال: لا أصلح الله حالك.
فقال له مسرور: إنما دفع إليك أمير المؤمنين عدوه لتغذوه له، ويكون عندك صالحا!.
قال أسلم: فجئت إلى محبسي فأخرجت يحيى منه وجعلته في بيت دونه ثلاثة أبواب وأغلقت الباب الأول والثاني والثالث؛ فخاف يحيى مما أردت به، فجعل معه دستوقةً من سمن أخفاها في كمه وأنا لا أعلم، فلما كان بعد سبعة أيام أتيته والموكلون بالباب، فدخلت عليه وأغلقت الباب من داخل فإذا هو يصلي، فاشتد تعجبي وقعدت بحذاه، ثم قلت: بهذه الخلقة، أردت الخلافة؟ وبهذا الوجه أردت الخروج على أمير المؤمنين؟ (وكان يحيى عليه السلام خفيف اللحية).(1/104)


وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إليَّ، فما زلت أتعرض به وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إليَّ حتى شتمته بالزاني فأسرع في صلاته وأوجز فيها، ثم وثب إليَّ وُثُوبَ أسد، فقعد على صدري، وقبض على حلقي وعصره حتى ظننت أنه قد قتلني، ثم أرسلني حتى استرحت، ثم قبض على حلقي، حتى فعل بي ذلك ثلاث مرات، ثم قال: لولا أنه ليس في قتلك دَرك لقتلتك، ثم قال: ويلك من شتمت فاطمة بنت محمد، أم فاطمة بنت أسد، أم فاطمة بنت الحسين، أم زينب بنت أبي سلمة. ثم خلاني فخرجت هارباً، وفتحت الأبواب وقلتُ للبوابين: أدخلوا فليس هذه قوة من لم يأكل سبعة أيام شيئا، ففتشوا البيت. فأخرجوا دستوقة السمن، فأخذتها، وغلقت الأبواب وتركته ثلاثة أيام، ثم جئت ففتحت الباب الأول ولم أغلقه وقلت للموكلين: إذا سمعتم صياحي فادخلوا. ثم فتحت الثاني والثالث فتسمعت طويلاً فلم أسمع له حركة، فتركت الأبواب مفتوحة، ودخلت فإذا هو ساجد قد انقلب على الجنب وهو ميت، فخرجت إلى الموكين فوجهت بهم إلى منزلي فأتوني بفرش ووسائد ومخاد ومقرمة وإزار، ثم بسطته، ولم ادخل أحداً معي منهم، ثم قمت على ركبتيه حتى مددتهما، ثم سجيته بثوب، ثم خرجت وأغلقت الباب الخارج، وأتيت هارون، فقلت: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين.
قال: فيمن. قلت: في ابن عمك يحيى بن عبد الله.
قال: وقد مات؟ قلت: نعم.
قال: به أثر؟ قلت: لا.
قال: فاذهب فادخل عليه شهوداً يشهدون على موته ودافنه، ففعل.(1/105)


[حال الخادم أبا المهاصر]
قال المدائني: حدثني عبد الله بن مروان، قال: رأيت والله أبا المهاصر - أسلم - هذا الخادم بعد الرشيد ومحمد الأمين يتصدق عليه، بسوء حال بعد نعمة عظيمة.(1/106)

21 / 24
ع
En
A+
A-