وأنشده أيضاً من الكامل:
تبكي مذلة أن تقنص حبلهم .... موسى وأقصد صائناً عثمانا
هلاّ على المهدي وابني مصعب .... أذريت دمعك ساكباً تهتانا
ولفقد إبراهيم حين تصدّعت .... عنه الجموع فواجه الأقرانا
سالت دموعك ظلَّةً قد هجت لي .... ترحاً وهما يبعث الأحزانا
والله ما ولد الحواضن مثلهم .... أمضى وأرفع مَحِتْداً ومكانا
وأشدَّ ناهضةً وَأَقول للَّتي .... تنفي مصادر عدلها البهتانا
فهناك لو فَقَّأتَ غير مشوهٍ .... عينيك من جزع عذرتَ علانا
رُزءٌ لعمرك لو يُصاب بمثله .... مِيطانُ صدَّعُ رزؤه ميطانا
فقال الزبيري: والله الذي لا إله إلا هو، وأمرّها غموساً، ماقلت من هذا شيئاً، ولقد تقول علي مالم أقل.
قال عيسى بن أبي جعفر: فأقبل الرشيد على يحيى عليه السلام، فقال: هل من بينة سمعت منه هذه المرثية.
قال: تأذن لي استحلفه.
قال: شأنك به، استحلفه على ما تريد.
فأقبل يحيى على الزبيري فقال: قل بَرَأك الله من حَولِه وقوته وَوَكلَكَ إلى حَولَكَ وَقوتِك، إنَّ كنت قلت هاتين المرثيتين ولا المديح الأول.
فقال الزبيري: بَرأني الله من حَولِه وقوته ووكلني إلى حولي وقوتي إن كنتُ قلتُ شيئاُ مما قال.
فلما حلف، قال يحيى صلى الله عليه: قتلته والله ياهارون.(1/97)
فأمر الرشيد برد يحيى عليه السلام إلى الحبس، وخرج الزبيري فضربه الفالج في شقه الأيمن فمات من ساعته. فولى الرشيد ابنه المدينة من بعده.
قال عيسى بن أبي جعفر: فوالله ما سرني أن يحيى نقصه حرفاً واحداً مما قال له، ولا وددت أنه قصَّر في شيء من مخاطبته إياه.
حدثني أبو زيد، قال: حدثني غير واحد: أن يحيى بن عبد الله صلوات الله عليه، قال يومئذ لهارون: والله إنه ليتقرب إلينا بعداوتكم وبعداوتنا إليكم في سالف الدهر وحديثه، وما اجتمعنا له إلا جمعنا بالعداوة ولا يخص بمقته ولا بغضه واحداً دون صاحبه.
قال: وما أقبل عليه يحيى عليه السلام في مخاصمته حتى افترقا. ما كان يُقبل إلا على هارون ولا يخاطب غيره حتى قال ابن مصعب: ألست الواثب في سلطاننا؟. قال يحيى: ومن أنتم عافاكم الله؟. يريد الزبيري. وإنَّه لمقبل على هارون. فتبسم هارون منه مستسراً بذلك.
ثم أقبل يحيى فقال: والله يا هارون إن كان من أصحاب محمد الذين نصروه بأيديهم وألسنتهم وإنه القائل وذكر الشعر:
قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتكم أن الخلافة فيكم يا بني حسنِ
ثم أمر بحبسه فذكر نحو ذلك.(1/98)
[نقض أمان يحيى (ع)]
وسمعت موسى بن عبد الله يذكر عن البكري: أن هارون جمع الفقهاء والقرشيين، وأحضر أمان يحيى بن عبد الله.
قال: وكان فيمن أُحْضِرَ من الفقهاء محمد بن الحسن، والحسن بن زياد.
وسمعت يحيى بن موسى يقول: هذا غلط. الذي أحضر أبو يوسف. وأخبرني أبو بكر محمد بن أحمد الرازي عن موسى بن نصر: إن الذي أُحْضِر أبو يوسف.
وسمعت أبا علي البستاني: يذكر عن أبن سماعة صاحب محمد بن الحسن، قال سمعت محمد بن الحسن يقول: بعث إليَّ هارون في أمر يحيى وأمانه، وقد جُمِع له الفقهاء والقرشيين فجعلت على نفسي أن أصحح الأمان، ولو كان فاسداً لأحقن دمه.
[فذاكرت ابن أبي عمران بهذا الخبر، فذكر عن ابن سماعة نحو ما ذكر البستاني عنه].
قال ابن سماعة: قال محمد بن الحسن: لما سألني هارون عن أمان يحيى أراد مني ومن غيري أن ندله على رخصة يصل بها إلى قتل يحيى. قال: فدفع إليَّ الأمان، وقال: انظر في هذا الأمان الفاسد.
قال: فنظرت فيه فرأيته أصح أمان، ولو كلفت أن أكتب مثله على صحته لصعب علي.
قال: فقمت قائما، فقلت: يا أمير المؤمنين حرام الدم ما رأيت أمانا قط أصح منه، ولا أوثق منه، وليس في نقضه حيلة.
قال: فأخذ دواة بين يديه فرماني بها فَشجَّ رأسي. ودفعه إلى غيري حتى عرضه على جميع من حضر، فقالوا كلهم: مثل قولي إلا أنهم لم يبادوا به، فقال: وهب بن وهب البختري بعدما قال هو: أنه صحيح، هاهنا حيلة.
قال: ما هي؟
قال: إنْ قال الفضل ابن يحيى إنه نوى وقت ما أعطاه الأمان غير الوفاء فالأمان باطل.
قال هارون: فالفضل يقول هذا.
قال: فدعا بالفضل ويحيى بن خالد، وابنه جعفر بن يحيى حاضران.
فقال هارون: يا فضل ألست إنما نويت بالأمان غير الوفاء.
قال الفضل: لا. ما نويت بالأمان إلا الوفاء.
قال: فغضب هارون، وقال: ويلك. أليس إنما نويت غير الوفاء؟.
قال: لا يا أمير المؤمنين ما نويت إلا الوفاء به. فاشتد غضب هارون، وقال: ويلك أليس نويت غير الوفاء؟.(1/99)
قال: لا، والله الذي لا إله إلا هو ما نويت غير الوفاء يا أمير المؤمنين.
ونظر أبو البختري إلى يحيى بن خالد، وجعفر بن يحيى، قد تغيرت وجوههما وأربدت، ورمياه بأبصارهما فعرف الشر في وجوههما.
فقال: يا أمير المؤمنين ما تصنع بهذا. أدع لي بسكين.
فأحضر له سكين، فقطع الأمان، ثم قال: يا أمير المؤمنين أقتله ودمه في عنقي.
قال: فقاله له يحيى: يا دَاعِيُّ والله لقد علمت قريش إنك لقيط، وإنك تُدعى إلى غير أبيك، وأبوك الذي تدعي أبوته لم يصح له نسب في قريش، إنما هو عبد لبني زمعة، فأنت مُدَّعٍ إلى دَعِيٍّ، وقد جاء في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وآله: (إنَّ من ادعى إلى غير أبيه أو اِنتمى إلى غير مَواليه فليتبوأ مقعده من النار). فكيف ترى حالك وأنت مصرٌ على الدعوة بعد معرفتك بالأثر عن النبي عليه السلام، ثم جرأتك على الله، واستخفافك لمحارمه في تمزيق أمان قد وكده ووثقه جماعة من علماء المسلمين، فهب أن لا مراقبة عندك في رجاء ثواب، ولا خوف من عقاب، فهلا سترت على ما يخفي ضميرك مما قد أبديت من هتك سترك، وإبداء عورتك؛ معاندة لله ولدينه، وعداوة منك لله ورسوله ولذرية رسوله.
ثم التفت إلى الرشيد. فقال له: يا هارون اتق الله وراقبه فإنه قل ما ينفعك هذا وضرباؤه ?يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا?[الفرقان: 27- 28] . ?وَيَوم لاَ يَنْفَعُ الظَالِمِين مَعْذِرَتُهم وَلهُم اللَّعْنَةُ وَلَهُم سُوء الدَّار?[غافر:52] .
فقال الرشيد لمن حضره من الفقهاء وغيرهم: انظروا. لا يستحلَّ أن يقول يا أمير المؤمنين. وأراد هارون أن يحتج عليه ليبطل أمانه.(1/100)
فقال يحيى صلى الله عليه: ما جزعك من اسم سمَّاكه أبوك، وقد كان يقال لرسول الله صلى الله عليه: يا محمد، فما ينكر على الداعي له بذلك، وقد سماه الله: رسول الله عليه السلام.
وقال موسى في حديثه: فأمر هارون جماعة القرشيين والفقهاء أن يكلموا يحيى يخبرهم بأسماء السبعين الذين أعطاهم الأمان.
قال: وقال هارون: كلما عزمت على طلب أعدائي نهيت من أجل هؤلاء الذين أعطيتهم الأمان ألا أتعرضهم.
قال: فقالوا ليحيى صلى الله عليه: أذكر لأمير المؤمنين أسماء أصحابك لئلا يغلط بهم فيأخذهم وقد أعطاهم الأمان فيأثم. وكلموه بكلام هذا معناه.
فقال يحيى عليه السلام: إنْ أراد أمير المؤمنين أن يفيء لي ولهم عرَّفني رأيه في الوفاء، فمتى أخذ رجلا من أصحابي الذين أخذت لهم الأمان أخبرته به حتى استوفي عدد السبعين الذين أعطاهم الأمان إن أراد الوفاء لهم، وإن لم يرد الوفاء لهم فكيف أخبره بأسمائهم وأدله على مواضعهم؟. إذن أكون شريكه في دمائهم.
فراجعناه في ذلك فقال: لو كانوا تحت قدمي ما رفعتها عنهم، فليعمل ما بدأ له أن يعمل.
قال: وردَّ يحيى عليه السلام إلى الحبس وخرجنا، فلما كان من الغد دُعِينا وأُحضر يحيى، فقال لنا الرشيد وكلمه لعله يخبرنا بأصحابه فكلمناه، فأومى إلى لسانه، فأخرج لسانه أصفر قد سُمَّ، فحلف الرشيد: أنه ما أمر في أمره بشيء وهو يوهمكم أني قد سقيته السُّم، فعليه وعليه إنْ كان من ذلك شيء.
فلما أخرج لسانه، قال هارون: ويلك يا مسرور ما هذا؟
قال: أنا سقيته، لما رادَّك يا أمير المؤمنين. فخرجنا ولم نعلم له خبراً بعد ذلك.(1/101)