[السبب الثاني]
قال محمد بن القاسم عليه السلام: حدثني أبي قال: كان بكار بن مصعب بن ثابت الزبيري عاملا لهارون على المدينة، فوشى بيحيى بن عبد الله بعدما رجع إلى الحجاز، فكتب إلى هارون أن بالحجاز خليفة يعظمه الناس ويختلفون إليه من جميع الآفاق، ولا يصلح خليفتان في مملكة واحدة. وذكر أنه يكاتب أهل الآفاق.
وكثر عليه في أمره وهو على الغدر فليحذره أمير المؤمنين، وليبادر برفعه إليه وإلا فتق عليه فتقاً عظيماً. [إلى أن أزعجه هارون من المدينة إلى بغداد] .
فوقع الثانية بهذا السبب فكان في الحبس حتى كان من أمره ماكان.(1/92)


[رواية اخرى]
قال أبو زيد عن ابن زبالة المدائني: قال لما رجع يحيى إلى الحجاز بالصلات والأموال جعل يفرقها على الأشراف وأهل الحاجة سراً وعلانية، وكان هارون قد ولىّ المدينة بكار بن مصعب، وجعله عيناً على يحيى لعلمه بشدة بغظه للطالبيين وتعصبه عليهم، فلم يزل بكار يوغر صدر هارون ويسعى إليه بيحيى حتى أمر الرشيد بحمله وحبسه وتقييده.(1/93)


[مجلس يحيى(ع) مع الرشيد، وخبره مع الزبيري]
وحدثني ابن النطاح عن المدائني، قال: حدثني الضبعي عن بعض النوفليين، قال: دخلنا يوماً على عيسى بن أبي جعفر نسلم عليه وقد وُضِعَتْ له وسائد بعضها على بعض وهو قائم مُتكي عليها يضحك من شيء في نفسه متعجباً. فقلنا له: ما الذي يضحك الأمير؟، أدام الله سروره.
قال : لقد دخلني اليوم سروراً ما دخلني قط مثله.
قلنا: حقق الله ذلك الأمر وزاد الأمير سروراً.
فقال: والله لا أحدثكم إلا قائماً. فتكأ على الفرش وهو قائم، ثم قال: كنت اليوم عند أمير المؤمنين، فدعا بيحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، فجيء به مكبلاً بالحديد، وعنده بكار بن مصعب. وكان الرشيد يميل إليه بسعايته إليه بآل أبي طالب.
قال: فلما دخل يحيى، قال الرشيد: ها ها هذا أيضا يزعم أنا سممناه.
فقال يحيى: ما معنى يزعم هذا؟ وأخرج لسانه مثل السليق.
قال: فتربد وجه هارون واشتد غضبه. فقال له يحيى عند ذلك: يا أمير المؤمنين إن لنا منك قرابة ورحماً ولسنا بترك ولا ديلم، وإنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله بقرابتنا من رسول الله علام تعذبني وتحبسني؟
قال: فرق له هارون وهم بتخليته.
قال: فأقبل الزبيري على الرشيد، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تسمع كلام هذا؛ فإنَّه شاق عاص، وإنما هذا مكر منه وخُبث. إنَّ هذا وأخويه قد أفسدوا علينا مدينتنا وعملوا فيها الأعاجيب، وأظهروا فيها الخلاف والعصيان.
فأقبل يحيى، فقال: أفسدنا عليكم مدينتكم، ومن أنتم عافاكم الله؟!، المدينة كانت مهاجر عبدالله بن الزبير أو مهاجر رسول الله؟ ومن أنت حتى تقول: أفسدوا علينا مدينتنا؟ وإنما آبائي وآباء هذا هاجروا إلى المدينة.(1/94)


فاستضحك الرشيد. فقال يحيى: يا هارون إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم فلا لوم علينا، لأَنَّكم أَكلتُم وَأَجعتمونا، ووجدنا بذلك مقالاً فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالاً فينا، يتكافؤوا فيه القول، ويعود الرشيد على أهله بالفضل، فَلِمَ يجرؤ هذا وضُرَباءه على أهل بيتك، فقد كان معاوية أبعد نسباً منك، سعى عبدالله بن الزبير إليه بالحسين بن علي وتنقصه، فقال له معاوية: تنتقص الحسين في مجلسي؟ لا ولاكرامة لك. فقال ابن الزبير: يا أمير المؤمنين كيف تنهاني وأنت تشتمه؟.
قال: لحمي آكله ولا أُأَكِّلُهُ.
يا أمير المؤمنين والله ما يسعى هذا بنا إليك نصيحة منه لك، ولكن عداوة منه لنا جميعاً؛ إذ قصرت يده سعى بنا عندك، كما سعى بكم عندنا عن غير نصيحة منه لنا، يريد أن يباعد بيننا ويشتفي من بعضنا ببعض، بغضاً منه، لأنا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونه، واللهِ ياأمير المؤمنين لقد جاءني هذا حين قُتِلَ أخي محمد بن عبدالله، فقال: فعل الله بقاتله، وأنشدني فيه مَرْثيةً عشرين بيتاً، وقال لي: إن خرجت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك. وقال: ما يمنعك أن تلحق بالبصرة فإنهم شيعة أخيك إبراهيم، وإنَّ أيدينا مع يدك.
قال: فتغير وجه الزبيري وأسود. وأقبل عليه هارون فقال: ما يقول هذا يا بكار؟
قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان ممّا قال حرف واحد.
فأقبل الرشيد على يحيى صلى الله عليه، فقال: تحفظ من القصيدة التي رثا بها أخاك شيئاً؟
قال: نعم، وأحفظ القصيدة التي حث فيها على الخروج مع محمد بن عبدالله.
قال: فأنشدنيها. فأنشده هذه القصيدة:
إنَّ الحمامة يوم الشعب من دَثَن .... هاجت فؤاد محبٍ دائمِ الحزنِ
إني لآمل أنَّ ترتد إلفتنا .... بعد التدابر والشحناءِ والإحنِ
وتنقضي دولة أحكام قادتها .... فينا كأحكام قومٍ عابدي وثنِ
قد طال ما قد بَرَوا بالجور أعظمنا .... بَرْيَّ الصّناع قداح النبل بالسفنِ
حتى يثاب على الإحسان محسننا .... ويأمن الخائف المأخوذ بالدمنِ
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتكم .... إنَّ الخلافة فيكم يابني حسنِ
لا عز ركناً يُزار إن هم خذلوا .... رهط النبي ولاركناُ ذوي يمن
فأنت أكرمهم فيهم إذا نسبوا .... وأبعد القوم عيداناً من الإبن
وأفضل القوم عند القوم قد علموا .... نفساً وأزكى وأنقاهم من الدرن(1/95)


وهو الذي يقول:
قل للمشنئ والمقصِّي داره .... تربت يداك وأطلَّها مهديُّها
فلتدهمنك غارة جرَّارة .... شعواء يحفز أمرها علويُّها
حتى تصبح قرية كوفية .... لما تغطرس ظالماً قرشيُّها
بكتبيةٍ وكتيبةٍ وكتائبٍ .... حسنية يحتثها حَسَنِيُّها
فحلف ما قال مما ذكر حرفاً واحداً.
فقال يحيى صلى الله عليه: يا هارون والله لقد رثاه بقصيدتين بعد موته.
قال هارون: فترويها؟قال: نعم.قال: فأنشدنيها. فأنشده قول الزبيري:
يا صاحبيَّ دعا الملامة واعلما .... أن لَستُ في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر ابن النبي محمدٍ .... لا بأس أن تقفا به وتسلما
قبر تضمن خير أهل زمانه .... حسباً وطيب سجيةٍ وتكرما
رجل نفى بالعدل جور بلادنا .... وعفا عظيمات الأمور فأنعما
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجد .... عنه ولم يفتح بفاحشة فما
لو أعظم الحدثان شيئاً قلبه .... بعد النبي لكنت أنت المعظما
أو كان أُمتع بالسلامة قبله .... أحد لكان قصاره أن يسلما
ضحوا بإبراهيم خير ضحيةٍ .... فتصرمت أيامه وتصرما
بطل يخوض بنفسه غمراتها .... لا طائشاً رَعِشاً ولا مستسلما
حتى مضت فيه السيوف وربما .... كانت حتوفهم السيوف وربما
أضحى بنوا حسن أبيح حريمهم .... فينا وأصبح نهبهم متقسما
ونساؤهم في دورهن نوائح .... سجع الحمام إذا الحمام ترنما
يتقربون بقتلهم شرفا لهم .... عند الإمام يرون ذلك مغنما
والله لو شهد النبي محمد .... صلى الإله على النبي وسلما
إشراع أُمَّتِه الأسَّنة في ابنه .... حتى تَقَطَّر من ظباتهم دما
حقا لأيقن أنهم قد ضيعوا .... تلك القرابة واستحلوا المأثما(1/96)

19 / 24
ع
En
A+
A-