أنتم مع الدنيا بمنزلة السقب مع الناب الضبعة الضروس متى دنا إليها لينال من درها منعته. وإن أتى إليها من أمامها خبطته، أو من ورائها رمحته، أو من عرضها عضته، فما عسى أن يصيب منها، هذا على تفرق شملكم واختلاف كلمتكم، لا تحلون حلالاً ولا تحرمون حراماً ولا تخافون آثاما، قد ران الباطل على قلوبكم فلا تعقلون، وغطت الحيرة على أبصاركم فما تبصرون، واسكت الغفلة أسماعكم فما تسمعون. على أن عودكم نضار، وأنكم ذوو الأخطار. ثم مَنّ الله عليكم وخصكم دون غيركم فابتعث فيكم محمداً صلى الله عليه وآله منكم خاصة، وأرسله إلى الناس كافة، وجعله بين أظهركم ليميز به بينكم، وهو تبارك وتعالى أعلم بكم منكم بأنفسكم، فاستنقذكم من ظلمة الضلال إلى نور الهدى، وجلا غشاوة العمى عن أبصاركم بضياء مصابيح الحق، وأستخرجكم من عمى بحور الكفر إلى جدد أرض الإيمان، وجمَّل برفقه ما انفتق من رتقكم، ورأب بيمينه ما انصدع من شعبكم، وَلَمَّ بإصلاحه ما فرَّقت الأحقاد والجهل من قلوبكم. ثم اقتضب برمحه لكم الدنيا الضبعة فذلت بَعْد عَنَتْ، ثم أبسها بسيفه فأرزمت وتفاجت واجترت بعد ضرس، ودرت ومرى ضرعها بيمن كفه فاختلفت أخلافها وانبعثت أحالبها، فرأمتكم كما ترأم الناب المقلاة طلاها، فشربتم عَلَلاً بعد نهل، وملأتم أسقيتكم فضلاً بعد اكتظاظ، وتركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تدور حولكم وتلوذ بكم كما تلوذ الزجور بسقبها. فلمَّا أقام أود قناتكم بثقاف الحق، ورحض بظهور الإسلام عن أبدانكم درن الشرك، ولحب لكم الطريق، وسن لكم السنن وشرع لكم الشرائع خافضاً في ذلك جناحه؛ يشاوركم في أمره، ويواسيكم بنفسه، ولم يبغ منكم على ما جاءكم به أجراً إلا أن تودُّوه في قرباه، وما فعل صلى الله عليه وآله ذلك له حتى أنزل الله عليه قرآناً، فقال تبارك وتعالى: ?قُلْ لاَ أسْئلكُم عَلَيِه أجْراً إلا المَوَدَة في القُرّبَى?[الشورى:23] .(1/82)
فلمَّا بلَّغ رسالة ربه وأنجز الله له ما وعده من طاعة العباد، والتمكين في البلاد؛ دُعِيَ صلى الله عليه فأجاب، فصار إلى جوار ربه وكرامته، وقدم على البهجة والسرور، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فوعده الشفاعة عنده والمقام المحمود لديه. فَخلَّف بين أظهركم ذرّيَّته فأخرتموهم وقدمتم غيرهم، ووليتم أموركم سواهم. ثم لم نلبث إلا يسيراً حتى جُعِلَ مال ولده حوزاً، وَظُلِمت ابنتُه فدفنت ليلاً، وقتل فيكم وصيه وأخوه وابن عمه وأبو ابنيه، ثم خذل وجرح وسمَّ سبطه الأكبر أبو محمد، ثم قتل سبطه الأصغر أبو عبدالله مع ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته الأدنين في مقام واحد، ثم على أثر ذلك نُبِش وصُلب وأُحرق بالنار ولد ولده. ثم هم بعد ذلك يُقتلون ويطرَّدون ويشردون في البلاد إلى هذه الغاية، قُتِلَ كِبَارُهُم وأوتم أولادهم وأرملت نساؤهم.
سبحان الله ما لقي عدوٌّ من عدوه ما لقيَ أهل بيت نبيكم منكم من القتل والحرق والصلب.
وليس فيكم من يغضب لهم إلا هزؤاً بالقول، إن غضبتم لهم زعمتم وقمتم معهم كي تنصروهم لم تلبثوا إلا يسيراً حتى تخذلوهم وتتفرقوا عنهم. فلو كان محمد صلى الله عليه وآله من السودان البعيدة أنسابهم المنقطعة أسبابهم - إلا أنه قد جاوركم بمثل ما جاوركم به - لوجب عليكم حفظه في ذريته. فكيف وأنتم شجرة هو أصلها، وأغصان هو فرعها، تفخرون على العجم، وتصولون على سائر الأمم، وقد عاقدتموه وعاهدتموه أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم؟. فسوءة لكم ثم سوءة، بأي وجه تلقونه غدا؟، وبأي عذر تعتذرون إليه؟.
أبقلة؟ فما أنتم بقليل.
أفتجحدون؟! فذلك يوم لا ينفع جحد، ذاك يوم تبلى فيه السرائر.
أم تقولون: قتلناهم؟ فتصدقون. فيأخذكم الجليل أخذ عزيز مقتدر.(1/83)
لقد هدمتم ماشيد الله من بنائكم، وأطفأتم ما أنار من ذكركم، فلو فعلت السماء ما فعلتم لتطأطأت إذلالاً، أو الجبال لصارت دكاً، أو الأرض لمارت مورا. أي عجب أعجب من أن أحدكم يَقْتُل نفسه في معصية الله ولا ينهزم، يقول بزعمه: لا تتحدث نساء العرب بأني فررت. وقد تحدثت نساء العرب بأنكم خفرتم أماناتكم ونقضتم عهودكم، ونكصتم على أعقابكم، وفررتم بأجمعكم عن أهل بيت نبيكم، فلا أنتم تنصرونهم للديانة وما افترض الله عليكم، ولا من طريق العصبية والحمية، ولا بقرب جوارهم وتلاصق دارهم منكم. ولا أنتم تعتزلونهم فلا تنصرونهم ولا تنصرون عليهم عدوهم؛ بل صيرتموهم لُحمةً لسيوفكم، ونهزة ليشتفي غيظكم من قتلهم واستئصالهم. وطلبتموهم في مظانهم ودارهم، وفي غير دارهم؛ فصرنا طريدة لكم من دار إلى دار، ومن جبل إلى جبل، ومن شاهق إلى شاهق. ثم لم يقنعكم ذلك حتى أخرجتمونا من دار الإسلام إلى دار الشرك، ثم لم ترضوا بذلك من حالنا حتى تداعيتم علينا معشر العرب خاصة من دون جميع العجم من أهل الأمصار والمدائن والبلدان، فخرجتم إلى دار الشرك طلباً لدمائنا دون دماء أهل الشرك تلذذاً منكم بقتلنا، وتقرباً إلى ربكم باجتياحنا؛ زعمتم لأن يبقى بين أظهركم من ذرية نبيكم عين تطرف ولا نفس تعرف. ثم لم يقم بذلك منكم إلا أعلامكم، ووجوهكم وعلماؤكم وفقهاؤكم والله المستعان.
قال حريث: قال أبي، وأراه ذكره عن أبيه: فلما سمعنا كلامه وخطبته بكينا حتى كادت أنفسنا أن تخرج.
قال: فقمنا وتشاورنا، فقلنا: ويلكم، هل بقيَ لكم حجة أو علة؟ لو قُتِلتُم عن آخركم وسبيت ذراريكم واصطفيت أموالكم، كان خيرأً لكم من أن تشهدوا على ابن نبيكم بالعبودية وتنفونه من نسبه.
قال: فعزمنا على أن لا نشهد.
قال: فصاح بنا أبو البختري وسليمان: ما تنتظرون؟، خدعكم فانخدعتم وملتم معه على أمير المؤمنين، والله لئن امتنعتم من الشهادة عليه لتقتلن عن آخركم، ولتسبين ذراريكم، ولتؤخذن أموالكم.(1/84)
قال: فتقدمنا فشهدنا عليه بأجمعنا؛ إنه عبد لهارون ليس بابن بنت النبي صلى الله عليه وآله.
وسمعت السميدع بن عبدالرحمن المرادي، يقول: عن أبيه عن جده، قال: نظر إليَّ يحيى بن عبدالله صلوات الله عليه، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من مراد. قال: مالنا ولمراد.
قال: فبان لجستان حولتهم وأنهم مكرهون ولكنه مال إلى الدراهم.
وطمع يحيى أن يختلفوا، فأجمعوا وأقدموا، فلما شهدوا قال يحيى صلوات الله عليه:
ما لكم فرق الله بين كلمتكم وخالف بين أهوائكم ولا بارك لكم في أنفسكم وأولادكم، أما والله لولا خوف الله ومراقبته لقلت مالا تنكرون، ولكن أمسك مخافة أن تُقتلوا وأن أُشرك في دمائكم، ولكن لأن أكون مظلوماً أحب إليَّ من أن أكون ظالما.
ثم قال: وقد علمت أنكم مكرهون، وأنكم ضعفتم عن الصبر على القتل فوسع الله عليكم وسلمنا وإياكم من هذا الجبار العاتي.
قالوا: كان عامة من حضر وشهدوا عليه قد بايعه، وكان سببه إلى جستان.
وكان يقتل بالظنة والتهمة فلو ذكر يحيى من هذا شياء لقتلوا عن آخرهم وهذا مشهور عنهم.
وكان يحيى صلوات الله عليه عظيم الحلم طويل السكوت شديد الإجتهاد.
فلمَّا شهدوا، قال جستان: بقى لك علة تعتل بها بعد شهادة هؤلاء؟.
قال يحيى: قد تبين لك ببكائهم، وترددهم يظهر أنهم مكرهون، فإذا أبيت إلا غدراً فأنظرني آخذ لي ولأصحابي الأمان على نسخة أنشؤها أنا وأوجهها إلى هارون حتى يكتب إقراره بذلك بخطه، ويجمع الفقهاء والمعدلين وبني هاشم فيشهدون عليه بذلك.
فكتب جستان إلى الفضل بذلك، وكتب الفضل بن يحيى به إلى الرشيد، فامتلأ سروراً وفرحاً، وعظم موقع ذلك منه وكتب النسخة على ما وجه بها يحيى بخطه، وأشهد على ذلك الفقهاء والأشراف منهم:
عبدالصمد بن علي، والعباس بن محمد، وإبراهيم بن محمد، وموسى بن عيسى.
ووجه إليه بالجوائز والألطاف وألف ألف درهم.(1/85)
[نسخة الأمان الذي طلبه يحيى عليه السلام من الرشيد]
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتابُ أمان من أمير المؤمنين - هارون بن محمد بن عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب - ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب، ولسبعين رجلاً من أصحابه:
أني أَمنّتُك يا يحيى بن عبدالله وسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من سرائر العباد مايعلم من علانيتهم؛ أماناً صحيحاً جائزاً صادقاً ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، لا يشوبه غل، ولا يخالطه غش يبطله بوجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب. فأنت يا يحيى بن عبدالله والسبعون رجلاً من أصحابك آمنون بأمان الله على ما أصبت أنت وهم من مال أو دم أو حدث على أمير المؤمنين - هارون بن محمد - أو على أصحابه وقواده، وجنوده وشيعته، وأتباعه ومواليه، وأهل بيته ورعيته وأهل مملكته. وعلى أنَّ كل من طالبه أو طالب أصحابه بحدث كان منه أو كان منهم من الدماء والأموال، وجميع الحقوق كلها فاستحق الطالب ليحيى بن عبدالله والسبعين رجلا من أصحابه فعلى أمير المؤمنين ضمان ذلك وخلاصه حتى يوفيهم حقوقهم أو يرضيهم بما شاؤا بالغاً ما بلغت تلك المطالبة، من دم أو مال أو حق أو حد أو قصاص. وأنه لا يؤاخذه بشيئ كان منه أو منهم مما وصفنا في صدر كتابنا هذا، ولا يأخذه وإياهم بضغن ولا ترة ولا حقد ولا وغر بشيء مما كان من كلام أو حرب أو عداوة ظاهرة أو باطنة ولا بما كان منه من المبايعة والدعاء إلى نفسه وإلى خلع أمير المؤمنين وإلى حربه.(1/86)