ووالله ما أكلي إلا الجشب، وما لباسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولافراشي إلا الأرض، ولاشهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم والرغبة إلى الله في مجاهدتكم، ولو موقفاً واحداً إنتظار إحدى الحسنين في ذلك كله من ظفر أو شهادة. وبعد:
فإن لنا على الله وعداً لا يخلفه، وضماناً سوف ينجزه، حيث يقول: ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?[التوبة: 55] . وهو الذي يقول: ?وَنُرِيدُ أنَّ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ اسْتُضعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَةً وَنَجْعَلَهُم الوَارِثين?[القصص: 5] .(1/77)


[الحيلة بجستان لأخذ يحيى(ع)]
قال: قال المدائني: فلما ورد جواب يحيى صلى الله عليه ضاق ذرع هارون وعظم عليه أمره، وساء ظنه، وخاف أن تكون قد انقضت مدتهم، فشاور أهل الرأي من الوزراء والعمال والقواد والقضاة وغيرهم.
فقال أبو البختري: لايغمك الله يا أمير المؤمنين. عليَّ أن أحتال بجستان حتى يسلمه إليك.
فقال له هارون: ويلك كيف تعمل؟
قال: أسير إلى جستان بجمع من وجوه أهل: دسينا، وقزوين، وزنجان، وأبهر، والري، وهمذان، وجميع علمائها فيشهدوا عنده بأني قاضي القضاة، فأشهد عنده أن يحيى عبدٌ لك.
فقال سليمان بن فليح: - وكان على ديوان الخراج - وأنا أسير معه يا أمير المؤمنين، فيشهدون عنده أني صاحب ديوان خراج الأرض، ثم أشهد عنده أنه عبد لك.
قال أبوالبختري: ويأمرنا أمير المؤمنين بمن لم يشهد لنا ومعنا فنضرب عنقه ونصطفي ماله، فإن أمير المؤمنين إذا فعل ذلك بهم شهدوا جميعاً على إستمالة جستان ورده إلى ما يحب أمير المؤمنين.
فوقع الكلام من هارون موقعاً عجيباً، وأمر لأبي البختري بجائزة ثلاثمائة ألف درهم، وأمر لسليمان بن فليح بمائة ألف درهم.
ووجههما على البريد إلى الفضل بن يحيى، وأمره أن من امتنع أن يشهد معهما عند جستان أن يضرب عنقه كائناً من كان، ويستصفى ماله، ومن شهد أُكرِمَ واجيز واسقط عنه الخراج. قال: ففعل الفضل بن يحيى ما أمره به هارون.(1/78)


[حيلة أبو البختري على الفقهاء في الكذب]
وقدم أبو البختري إلى دسينا، ووجه إلى وجوه البلدان فأحضرهم، وقال لهم: إن هذا يحيى بن عبدالله قد دخل الديلم، ويريد أن يقاتل بأهل الشرك أهل الإسلام، ويخرج يده من طاعة أمير المؤمنين، وقد جاءت الرخصة في الكذب، والخديعة في الحرب. وقد رأينا أن نشهد أنه عبداً لأمير المؤمنين، نطلب بذلك الثواب عند الله لترجع إِلفة المسلمين وتسكن الثائرة، ولا غنى بكم عن حسن جزاء أمير المؤمنين، وهذا كتابه. فقرأ عليهم ما فيه من الإيعاد لمن امتنع، والإطماع لمن أجاب، فأجابوه بأجمعهم إلى أن يشهدوا معه.
فخبرني حريث بن ميسرة الكناني - من وجوه أهل مدينة أبهر عن مشائخ أهله: أن أبا البختري وسليمان لما قدما من عند هارون وجهوا في كور الجبل إلى أهل الفقة والعلم والمعدَّلين ممن يعرفهم جستان من أهل: قزوين، وزنجان، وأبهر ، وشهربرد، وهمذان، والرَّي، ودنباوند، والرويان، فأتاهم فجمع له منهم تسعمائة رجل، ومن أهل طبرستان أيضاً أربعمائة رجل، فشهدوا بأجمعهم عند جستان أنه: عبد لهارون.
وكل هؤلاء من أهل الشرف والقدر، والعرب المتمكنين في بلاد الجبل ليس فيهم وضيع إلا يسير.
قال: وقالوا لجستان: ليس هو ابن بنت نبينا، هو مدع فيما يقول إنما هو عبد للرشيد.
وسمعت السميدع بن عبدالرحمن المرادي من أهل قزوين وغيره: يقول ذلك ويرويه عن مشائخه.(1/79)


[مقالة يحيى مع جستان]
قال: فلما شهدوا عند جستان ملك الديلم. قال جستان ليحيى: ما وجدت أحداً تخدعه بدعوتك غيري.
فقال له يحيى: أيها الرجل إنَّ لك عقلاً وإن لم يكن لك دين، فتدبر مايقول القوم، وماتقدم منهم إليك، ورده على قلبك وعقلك، واجعل عقلك حكماً دون هواك؛ لو أني كنت كما قالوا ما وجهوا إليك بهذه الأموال وما أردفوها بهذه العساكر ولا بذلوا في دفعك إياي إليهم هذه الأموال، ولا جمعوا لك من ترى من وجوه الجبل وفقهائهم ومعدليهم ليشهدوا عندك بالزور، وما كان عليهم من رجل جاء إلى عدوهم، أو وليّهم ينتمي إلى نسب ليس منه؟.
فمال الديلمي إلى الدنيا - فقال: دعني من هذا، ما كان هؤلاء ليشهدوا عندي بالزور.
فقال يحيى: هنا خصلة، تبعث رجلين ممن تثق بهما من رجالك مع رسولي إلى مكة والمدينة فيسألوا عني.
قال: هذا يطول.
قال: فدع هذا، ابعث رسولاً إلى الرَّي،ورسولا إلى بغداد، ورسولاً إلى قزوين، وسائر المدن، فيسألوا عن هؤلاء الشهود فتعرف حالهم وأنهم شهود زور، وأنهم أكرهوا على شهادتهم، وأنهم إن أبوا قُتِلوا واستصفيت أموالهم وسبيت ذراريهم.
قال: ما نصنع بهذا الكلام؟ لم يشهد هؤلاء بأجمعم على زور.
فأيس يحيى من منعه وعلم أنه مسلمه، وظهر ميله إلى ما بذل له.(1/80)


[خطبة يحيى(ع) للشهود]
قال: فاجمع بيني وبينهم حتى أكلمهم بحضرتك.
قال: ذاك لك. وطمع يحيى إن ذكرهم الله أن يرجعوا أو تختلف كلمتهم.
فقال جستان لأبي البختري: احضر وأصحابك حتى تشهدوا على يحيى في وجهه.
فاجتمعوا، ونصب ليحيى كرسي فجلس عليه.
فلما أخذوا مجالسهم ابتداء يحيى عليه الصلاة والسلام، فقال:
الحمدلله على ما أولنا من نعمه وأبلانا من محنه وأكرمنا بولادة نبيه، نحمده على جزيل ما أولى وجميل ما أبلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقرٍ بوحدانيته خاضع متواضع لربوبيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله انتخبه واصطفاه واختاره واجتباه صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، أما بعد:
معاشر العرب، فإنَّكم كنتم في حمض من الدنيا، بشر دار وأضنك قرار؛ ماؤكم أجاج، وأكلكم ثماج من العلهز والهبيد، والأعاجم لكم قاهرة، وجنودهم عليكم ظاهرة، لم يمنعهم من تحويلكم إلا قلة خير بلدكم.(1/81)

16 / 24
ع
En
A+
A-