ثم توجهت جماعة من أهل العلم والفضل في جيش إلى سجستان، فتذاكروا ما حل بهم من ابن مروان فخلعوه وبايعوا للحسن بن الحسن، ورأسوا عليهم بن الأشعث إلى أن يأتيهم أمره، فكان رئيسهم غير طائل ولا رشيد، نصب العداوة للحسن قبل موافاته، فتفرقت عند ذلك كلمتهم، وفلَّ حدهم، ومزقوا كل ممزق. فلما هزم جيش الطواويس احتالوا لجدي الحسن بن الحسن فمضى مسموماً يتحسى الحسرة، ويتجرع الغيظ صلوات الله عليه. حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر شرى زيد بن علي صلوات الله عليهما نفسه، فما لبث أن قُتل، ثم صلب ثم أُحرق، فأكرم بمصرعه مصرعاً. ثم ما راعهم إلا طلوع إبنه يحيى صلى الله عليه من خراسان فقضى نحبه وقد أعذر صلوات الله عليهما.
وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه يحيى، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وإخوته وأولاده، فخرج بزعمه يقوم بدعوته، حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.(1/72)
ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون، وإلينا ترجعون وقد أخذ الله عليكم ميثاقاً لنا، وأخذنا عليكم ميثاقاً لمهدينا محمد بن عبد الله النفس الزكية الخائفة التقية المرضية، فنكثتم ذلك وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكونوا تَدَّعُونه قديماً ولا حديثا، ولا ادعاه لكم أحد من الأمة إلا تقولاً كاذباً، فها أنتم الآن تبغون دين الله عوجا، وذرية رسول الله قتلاً واجتياحا، والآمرين بالمعروف صلباُ واستباحا. فمتى ترجعون؟ وأنى تؤفكون؟، أولم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضلا؟ إذ لا فضل يعدل في الناس فضله، ولا زهد يشبه زهده، حتى ما يتراجع فيه إثنان ولايتردد فيه مؤمنان، ولقد أجمع عليه أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد لا يتخالجهم فيه الشك ولا تقفهم عنه الظنون. فما ذُكِر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته، إلا ماكان من عناد أهل الإلحاد الذين غلبت عليهم الشقوة وغمصوا النعمة، وتوقعوا النقمة من شيع أعداء الدين، وأفئدة المضلين، وجنود الضالين، وقادة الفاسقين، وأعوان الظالمين، وحزب الخائنين.(1/73)
وقد كان الدعاء إليه منكم ظاهرا، والطلب له قاهرا، وبإعلان اسمه وكتاب إمامته على أعلامكم: "محمد يامنصور"، يُعرف ذلك ولا يُنكر، ويُسمع فلا يجهل، حتى صرفتموها إليكم وهي تخطب عليه، وكفحتموها عنه وهي مقبلة إليه، حين حضرتم وغاب، وشهدتم إبرامها ورأى قلة رغبة ممن حضر، وعظيم جرأة ممن اعترض. حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرت لكم بنسبتنا؛ قالت لكم أجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا: إنها لاتتوطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا. فأغرى بنا جدك المتفرعن في قتلنا لاحقاً بأثرة فينا عند المسلمين، ولؤم مقدرة وضراعة مملكة، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا. وهيهات لن يدرك الناس ذلك، ولله فينا خبية لا بد من ظهورها، وإرادة لابد من بلوغها.
فالويل له، فكم من عين طال ما غضت عن محارم الله وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفاً من الله، قد اسحّها بالعبرات باكية، وسمّرها بالمسامير المحمَّاة فألصقها بالجدرات المرصوفة قائمة. وكم من وجه طالما ناجى الله مجتهداً وعنا لله متخشعاً، مشوهاً بالعمد مغلولاً مقتولاً ممثولاً به معنوفاً. وتالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله صلوات الله عليه للقيه بإثم عظيم وخطب كبير. فكيف؟ وقد قتل قبله النفس التقية أبي عبدالله بن الحسن وإخوته وبني أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النفس في مطاميره. لايعرفون الليل من النهار ولا مواقيت الصلاة إلا بقراءة أجزاء القرآن تجزئة لما عانوا من دراسته في آناء الليل والنهار حين الشتاء والصيف، حال أوقات الصلوات قرماً منه إلى قتلهم، وقطعاً لأرحامهم، وتِرَةً لرسول الله فيهم. فولغ في دمائهم ولغان الكلب، وضريَ بقتل صغيرهم وكبيرهم ضراوة الأسد، ونهم بهم نهم الخنزير، والله له ولمن عمل بعمله بالمرصاد.(1/74)
فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار العنيد الفظ الغليظ بأضعاف فتنته وإحتذاءً بسيرته قتلاً وعدواناً وتشريداً وتطريداً. فأكلتمانا أكل الرُّبا حتى لفظتنا الأرض خوفاً منكما، وتأبدنا في الفلوات هرباً منكما، فأنست بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها. فلو لم تجترم أنت وأخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزراً عظمياً، وسيعلم وقد علم ما اقترف، والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.
ثم امتحننا الله من بعده بك، فحرصت على قتلنا وطلبت من فّرَّ عنك منا، لا يؤمنهم منك بُعْدُ دار ولا نأي جار، تتبعهم حيلك وكيدك حيث سيروا من بلاد الترك والديلم، لا تسكن نفسك ولا يطمئن قلبك دون أن تأتي عن آخرنا، ولا تدع صغيرنا ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق ولا قائل بصدق من أهله. حتى أخرجك الطغيان وحملك الحسد والشنئان أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين وأعلنت بنقصه وقرّبت مبغضيه، وأدنيت شانئيه حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، فأمرت بكرب قبر الحسين صلى الله عليه وتعمية موضعه وقتل زوّاره واستئصال محبيه، وأوعدت زائريه وأرعدت وأبرقت على ذكره.
فوالله لقد كانت بنو أمية الذين وصفنا آثارهم مثلاً لكم، وعددنا مساؤهم احتجاجاً عليكم على بعد أرحامهم أرأف بنا منكم، وأعطف علينا قلوباً من جميعكم، وأحسن استبقاء لنا ورعاية من قرابتكم. فوالله ما بأمركم خفاء ولا بشأنكم امتراء.
ولمَ لا نجَاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً مساءً، مغّتراً بالمهلة آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة؟.(1/75)
تارة تغري بين البهائم بمناطحت كبش ومناقرة ديك ومحارشة كلب، وتارة تفرش الخصيان وتأتي الذكران، وتترك الصلاة صاحياً وسكران. ثم لا يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله وانتهاك محارم الله. فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لايَعْجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت؟ وهو شديد العقاب.
وأما ما دعوتني إليه من الأمان وبذلت لي من الأموال فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل لخطير همته، ولا يبطل سعياً باقياً على الأيام أثره، ولا يؤثر جزيلاً عند الله أجره بمالٍ فانٍ وعارٍ باقٍ، هذه صفقة خاسرة وتجارة بائرة. أستعصم الله منها وأسأله أن يعيذني من مثلها بمنّه وطوله. أفأبيع المسلمين؟ وقد سمت إليَّ أبصارهم، وأنبسطت نحوي آمالهم بدعوتي، واشرأبت أعناقهم نحوي. إني إذاً لدنيُّ الهمة، لئيم الرغبة، ضيق العطن.
هذا والأحكام مهملة، والحدود معطلة ، والمعاصي مستعملة، والمحارم منتهكة، ودين الله محقور، وبصيرتي مشحوذة وحجة الله عليَّ قائمة في إنكار المنكر.
أفأبيع خطر مقامي بمالكم؟، وشرف موقفي بدراهمكم؟، وألبس العار والشنار بمقامكم؟. ?قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ?[الأنعام:56] .(1/76)