[كتاب الرشيد إلى يحيى عليه السلام]
وكتب هارون إلى يحيى بن عبد الله كتابا يعرض عليه فيه الأمان له ويبذل ليحيى من المال؛ ألف ألف، وألف ألف، وألف وألف، ومن القطائع كذا وكذا، وأن ينزلوه من البلاد حيث أحب ويولوه من والولايات البلاد ما أراد ويقضوا له من الحوائج كل ما طلب.(1/67)


[جواب يحيى عليه السلام على الرشيد]
فكتب يحيى إلى هارون جواب كتابه بكتابه هذا وهو معتصم بما يؤكد الديلمي من ذمته راج منه الوفاء وحسن المدافعة، ولِمَا أظهر من منعه وعقد من ذمته... وهذا كتابه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فقد فهمت ما عرضت علي من الأمان على أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعلها الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيراً ولا فتيلا، فاستعظمت الاستماع له فضلا عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزهاً عن قبوله. فاحبس أيها الإنسان عني مالك وإقطاعك وقضائك حوائجي، فقد أدبتني أمي أدبا ناقصا وولدتني عاقا قاطعا، فوالله لو أن من قتلتم من أهلي تركا وديالم على بُعدِ أنسابهم مني وانقطاع رحمهم عني لوجبت علي نصرتهم، والطلب بدمائهم، إذ كان منكم قتلهم ظلماً وعدواناً، والله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازياً ومعاقباً وناصراً لأوليائه ومنتقماً من أعدائه.
وكيف لا أطلب بدمائهم وأنام عن ثأرهم؟ والمقتلول بالجوع والعطش والنكال، في ضيق المحابس، وثقل الأغلال، وعدو العذاب، وترادف الأسوط، أبي عبد الله بن الحسن النفس الزكية والهمة السنية، والديانة المرضية، والخشية والبقية شيخ الفواطم وسيد أبناء الرسل، زمنه طرا، وأرفع أهل عصره قدراً، وأكرم أهل بلاد الله فعلاً. ثم يتلوه إخوته وبنوا أبيه، ثم إخوتي وبنوا عمومتي، نجوم السماء، وأوتاد الدنيا، وزينة الأرض، وأمان الخلق، ومعدن الحكمة، وينبوع العلم، وكهف المظلوم، ومأوى الملهوف، مامنهم أحد إلا من لو أقسم على الله لبرّ قسمه.(1/68)


فما أنس من شيء فلا أنسى مصارعهم، وما حل بهم من سوء مقدرتكم، ولؤم ظفركم، وعظيم إقدامكم، وقسوة قلوبكم، إذ جاوزتم قِتْلَة من كفر بالله إفراطاً، وعذاب من عاند الله إسرافاً، ومثله من جحد الله عتواً. وكيف أنساه؟ وما أذكره ليلاً إلا أقض عليَّ مضجعي، وأقلقني عن موضعي، ولا نهاراً إلا أمَرَّ عليَّ عيشي وقصر إليَّ نفسي، حتى لوددت أنِّي أجد السبيل إلى الاستعانة بالسباع عليكم فضلاً عن الإنس فآخذ منكم حق الله الذي أوجب عليكم، وأنتصر من ظالمكم؛ فأشفي غليل صدر قد كثرت بلابله، وَاُسْكن قلباً جماً وساوسه من المؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم ولو يوماً واحداً ثم يقضي الله فيَّ ما أحب. فإن أعش: فمدرك ثأري داعياً إلى الله على سبيل رشاد أنا ومن اتبعني نسلك قصد من سلف من آبآئي وإخوتي وإخواني القائمين بالقسط، والدعاة إلى الحق. وإن أمت: فعلى سنن ما ماتوا غير راهب لمصرعهم ولا راغب عن هديهم، فلي بهم أسوة حسنة وقدوة هادية. فأول قدوتي منهم: أمير المؤمنين صلوات الله عليه، إذ كان مازال قائماً حين القيام [على المؤمن] مع الإمكان حتماً والنهوض لمجاهدة الجائرين فرضاً، فاعترض عليه من كان كالظلف مع الخف، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت، وظاهرهم من أعداء الله مثل من ظاهرك، وهم لمكان الحق عارفون، وبمواضع الرشد عالمون، فباعوا عظيم جزاء الآخرة بواتح عاجل الدنيا، ولذيذ الولاء الصدق بغليظ مرارة الإفك.(1/69)


ولو شاء أمير المؤمنين لهدأت له وركنت إليه بمحاباة الظالمين، واتخاذ المضلين، وموالاة المارقين. ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذاً، ولا للظالمين موالياً، ولم يكن أمره عندهم مشكلاً، فبدلوا نعمت الله كفراً، واتخذوا آيات الله هزؤا، وأنكروا كرامة الله، وجحدوا فضيلة الله لنا. فقال رابعهم: أنى تكون له الخلافة والنبوة؟__حسداً وبغياً، فقديماً ما حسد النبيئون وآل النبيئين، الذين اختصهم الله بمثل ما اختصنا، وأخبر عنهم تبارك وتعالى فقال: ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا?[النساء: 54] فجمع لهم المكارم والفضائل والكتاب والحكمة والنبوة والملك العظيم، فلما أبوا إلا تمادياً في الغي وإصراراً على الضلال جاهدهم أمير المؤمنين حتى لقي الله شهيداً صلوات الله عليه.(1/70)


ثم تلاه الحسن ابنه سليل رسول الله صلى الله عليه وشبيهه وسيد شباب أهل الجنة إذ كل أهلها سادة فكيف بسيد السادات، فجاهد من كان أمير المؤمنين جاهده، وسكن إليه من المسلمين من كان شايعه من ذوي السابقة وأهل المأثرة، فكان أول من نقض ما عقد له ونكث عما عاهده: عمك عبيدالله بن العباس، حين اطمأن إليه، وظن أن سريرته لله مثل علانيته، وجّهه على مقدّمته في نحو من عشرين ألفاً من المسلمين، فلما نزل مسكناً من سواد العراق باع دينه وأمانته من ابن آكلة الأكباد بمائة ألف درهم وفرّق عسكره ليلاً، ولحق بمعاوية، فدله على عورات عسكر ابن رسول الله وأطمعه في مبارزته بعد أن كانت نفسه قد أحيط بها، وضاق عليه مورده ومصدره وظن أن لا مطمع له حين استدرج وامهل له. فارتحل الحسن بنفسه باذلاً لها في ذات الله ومحتسباً ثواب الله، حتى إذا صار بالمدآئن وثب عليه أخو أسد فوجأه في فخذه فسقط لما به واَيس الناس من إفاقته، فتبددوا شيعاً وتفرقوا قطعاً. فلما قصرت طاقته، وعجزت قوته، وخذله أعوانه، سالم هو وأخوه معذورين مظلومين موتورين. فاستثقل اللعين ابن اللعين حياتهما واستطال مدتهما فاحتال بالاغتيال لابن رسول الله حتى نال مراده وظفر بقتله. فمضى مسموماً شهيداً مغموماً فقيداً. وغبر شقيقه وأخوه وابن أمه وأبيه، شريكه في فضله ونظيره في سودده على مثل ما انقرض عليه أبوه وأخوه حتى إذا ظن أن قد أمكنته محبة الله من بوارهم ونصرة الله من افترائهم، دافعه عنها أبناء الدنيا واستدرج بها أبناء الطلقاء، فبعداً للقوم الظالمين، وسحقاً لمن آثر على سليل النبيئين وبقية المهديين - الخبيث وابن الأخبثين، والخائن وابن الخائنين، فقتلوه ومنعوه ماء الفرات وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله وقتلوهم ظلماً، يناشدونهم فلا يُجابون ويستعطفونهم فلا يرحمون. ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقرباً إليه، فبعداً للقوم الظالمين.(1/71)

14 / 24
ع
En
A+
A-