[ثورة الكلبي، ودعوته لإدريس]
وثار مالك بن المنذر الكلبي على عبدالله بن الجارود فقتلوا محمد بن عبدالله بن الجارود، ودعوا إلى إدريس بن عبدالله.
وكان محمد بن عبدالله بن الجارود على تونس فلحق أصحابه بالقيروان وجلوا عن تونس.
فلما صاروا إلى عبدالله بن الجارود أخرج الفضل بن روح فضرب عنقه سنة ثمان وسبعين ومئة، ثم زحف إلى مالك بن المنذر الكلبي فالتقوا فقتل بينهم عالم كثير، وقتل مالك بن المنذر وانهزم أصحابه.
فلما اتصل خبره بهارون الرشيد وجه يقطين بن موسى صاحب الدولة والمهلب بن رافع ليجيبوا عبدالله بن الجارود إلى كل ما سأل ويتضمنوا له جميع ما أحب، ووجه إليه بأموال كثيرة وجوائز وخلع.
فلما بلغ عبدالله خبرهم وما جاءوا له كتب إلى عامله بطرابلس أن يحبسهم قبله ولا يخليهم حتى يرى رأيه، فَحُبِسُوا بها مدة. ثم استعمل عبدالله على طرابلس - طالب بن غضين التميمي - وأمره أن ينفذ إليه رسل هارون، فلما قدموا عليه أكرمهم وقبض ما معهم من الأموال وردهم إلى هارون. فاعلموه أنه في الطاعة، وسألهم أن يستوهبوا له من هارون ما كانت من جبايته؛ ففعل تلك له هارون، ووجه إليه برزق الأبناء والجند ثلاث سنين. وأعطى هارون يقطين كل ما سأله له، وأخبر يقطين أنه لا يضبط الأبناء على بابه إلا أرجل رجل على بابه؛ وأخبره بخبر إدريس، وقال: لا آمن أن يميل عبدالله بن الجارود إلى إدريس فلا يرده عن مصر راد فراع هارون ذلك.(1/57)


[إرسال هرثمة إلى المغرب]
فاستعمل على المغرب هرثمة بن أعين - وكان أشد رجلا في عصره، وأحسنهم تدبيرا في الحرب - وأكد عليه في الحيلة في إدريس بالسم. ووجه معه الأموال والجيوش، وأمره أن لا يرجع ما بقيَ إدريس في المغرب.
فأقام هرثمة لعمري بالمغرب حتى سم إدريس وقتل.
قال: وأقبل هرثمة حتى صار إلى برقة فقدم يحيى بن موسى الكندي في جيش عظيم إلى طرابلس.
وأراد أن يختبر عبدالله بن الجارود هل هو في الطاعة لهم أم لا؟. وكتب إلى محمد بن يزيد الفارسي كتاباً لطيفاً يعده ويمنيه ويأمره أن يغتال عبدالله بن الجاررود إن لم يقبل ما بذل له من الأمان ويسلم القيروان. وكتب إليه إن هو فعل ولاه القيروان ورفعه وأجازه.
فعرض محمد بن يزيد على عبدالله بن الجارود أن يُسلّم إليه البلد فأبى، فكلم الأبناء ودس إليهم واستمالهم، وقال: أنتم أصحاب هذه الدولة والقائمون بها وعبدالله قد خلع الطاعة وشاق الخليفة ومالأ عدو أمير المؤمنين إدريس بن عبدالله فأجابوه. فواعدهم موضعاً يقال له: باب ابن أبي الربيع في يوم بعينه. ثم ثار بهم.
فلما بلغ عبدالله بن الجارود زحف إليه، فانهزم محمد بن يزيد الفارسي وتبعه عبدالله حتى قتله، وآمن من تخلف من أصحابه، ولحق قوم منهم بنفوسه وزناته.
ثم قدم يحيى بن موسى - خليفة هرثمة - طرابلس فدخلها يوم السبت لعشر خلون من المحرم بغير حرب سنة تسع وسبعين ومائة فبعث إلى من بها من القواد والأبناء فأعطاهم رزق سنتين. فلما بلغ من بالقيروان ذلك خذلوا عبدالله بن الجارود (العبدي) وتسللوا إلى يحيى بن موسى الكندي.
وقدم هرثمة طرابلس فخاف أن يفوته عبدالله بن الجارود ويصير إلى (الزاب) فيلحق بإدريس فلا يقوم له، فأشاروا عليه أن يكتب، إلى العلاء بن سعيد ويأمروه بحربه والأخذ عليه ويمده بالأموال، وكان العلاء بالزاب ففعل.(1/58)


فجمع العلاء كل من قبله من أبناء الجند، وأهل الشام وسائر عرب المغرب، ومن قدر عليه. وكتب إليه هرثمة أن يزحف إلى القيروان وأن يعرض جميع من أتاه، ويستعين على عبدالله بن الجارود بكل من قدر عليه.
فلما بلغ عبدالله ذلك وخذله أصحابه علم أنه لا طاقة له بالقوم ولا سبيل له إلى اللحوق بإدريس بطنجة، فكتب إلى هرثمة بن أعين: أن وجه إليّ من أحببت حتى أسُلِّم إليه العمل. واعترف له بالطاعة.
فوجه هرثمة يحيى بن موسى بجميع الجند الذين كانوا بطرابلس وضم إليه خلقاً من أصحابه، فلما قارب إفريقية تلقاه النضر بن حفص، وابن معاوية - القائدين في جميع جند إفريقية - فصوب نحو القيروان. وخالفه عبدالله بن الجارود فخرج منها إلى ناحية سرت وأقام بها، ووجه رسولاً يأخذ له الأمان من الرشيد وعزم إن تعذر عليه الأمان منه أن يأخذ الغلاة والرحال إلى إدريس فأجابه الرشيد إلى جميع ما سأل، وبعث إليه بالخلع والأموال، ووجه إليه برسول يؤمنه ويضمن له كل ما طلب ويأمره بالقدوم بغداد. فخرج يريدها فلما فصل عن مصر سُقيَ شربة فمات منها. وانتشر من كان معه فقتل عامتهم.
وصار هرثمة إلى القيروان في جمادي سنة تسع وسبعين ومائة، فلم يزل يدس إلى إدريس ويحتال عليه ويوجه إلى النفر الذين كان هارون وجههم إلى إدريس، إلى طنجة يسقوه السم حتى فعلوا.
ثم أمر بالشيعة في جميع الأمصار أن يقتَّلوا ويعذَّبوا ويحرقوا حتى ما يومأ إلى أحد بريء ولا سقيم إلا أخذ وعذب بأنواع العذاب.(1/59)


[بداية تنقلات الإمام يحيى بن عبدالله (ع)]
ففر يحيى إلى اليمن، فطلب في اليمن، ففر إلى بلاد الجزيرة ثم إلى بلاد أرمينية والطلب يتبعه من بلد إلى بلد حتى ألجأه إلى أن دخل بغداد.(1/60)


[خروجه من بغداد]
قال الحسن بن إبراهيم بن يونس عن أبيه عن فليت بن سليمان، قال: لما اشتد الطلب بيحيى ألجاه الطلب إلى أن دخل بغداد، فاتصل خبره بهارون فوضع المراصد على بغداد ومنع من الدخول إليها والخروج منها، وأمر أصحاب الأرباع والمسالح والحراس أن يأتوا بكل غريب من كل درب وكل خان وسوق.
فرجع صاحب الدار التي فيها يحيى فأخبره الخبر واغتم لذلك وخاف أن يُهْجَم عليه.
فقال له يحيى: امضي فاشتر لي بغلين فارهين.
قال: فدخل السوق واشترى بغلين. فلما أتاه بهما حذَّفهما على هيئة بغال البريد، فلما مضى من الليل ثلثاه خرج فركب وركب صاحبه ودفع خريطة قد هيأها من النهار إلى صاحبه وأمره أن ينعر ويصيح كأنه فرانق بين يديه، ففعل صاحبه ذلك. فجعل لا يمر بدرب ولا سريحة إلا فتحت بين يديه حتى خرجا عن بغداد.
فلما أتوا موضع سكة البريد نزل وأدخلوا البغلين بعض الأنهار وقيدوهما وتركوهما ومضيا.
قال: ومر يحيى وقد لبس خلقانا وتعمم بعمامة خَلِقة كأنه أعرابي، فمنعه صاحب المسلحة أن يجوز.
فقال له يحيى: ويحك ليس مثلي يُمنع! إنما يمنع رجل عليه شارة الدنيا.
فما زال يدفع عن نفسه بالمعاريض حتى قال له المسلحي: فأنشدني أبيات شعر وَجُزْ.
قال: فأنشأ يحيى صلوات الله عليه يقول[من السريع]:
مُنخَرقُ الخُفَين يَشكو الوجَا .... تَنْكُبُهُ أَطرافُ مَرْوٍ حِدَاد
شرَّدهُ الخوف من أوطانه .... كذاك من يكره حرَّ الجلاد
قد كان في الموت له راحة .... والموت حتم في رقاب العباد
قال: فلما وجد البغلان مُسيَّبين استريب بهما فَسُئل عنهما أصحاب المسالح وهُدِّدوا.
فقالوا: والله ما مر بنا إلا أعرابيُّ أنشدنا أبياتا من شعره، فذكروا الشعر لهم.
فقالوا: هو والله ذلك. فطلبوه فلم يلحقوه وفاتهم.(1/61)

12 / 24
ع
En
A+
A-