وكما مدحهم وأثنى عليهم إذ يقول: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَة للنَّاسِ تَأَمُرُوَنَ بالمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَن المُنْكَر وَتُؤمِنُونَ بالله?[آل عمران: 110] ، وقال عز وجل: ?المُؤمِنٌون وَالمُؤمِنَات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأَمُرٌون بالمعرُوف وَيَنْهَون عَنِ المُنْكِر?[التوبة: 71] ، وفرض الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضافه إلى الإيمان به والإقرار بمعرفته، وأمر بالجهاد عليه والدعاء إليه، وقال عز وجل: ?قَاتِلُوْا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُوا بالله وَلاَ بِاليومِ الأَخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّم الله وَرَسُولَهُ وَلاَ يُدِينُونَ دِينَ الحقِ?[التوبة:29] ، وفرض قتال العاندين عن الحق، والباغين عليه ممن آمن به وصدق بكتابه حتى يعودوا إليه ويفئوا.
كما فرض الله قتال من كفر به وصد عنه حتى يؤمن ويعترف بدينه وشرائعه، فقال تعالى: ?وَإنْ طَائِفَاتانِ مِنَ المُؤمِنِين اقْتَتَلُوْا فَأصْلِحُوا بَينَهُمَا فإنْ بَغتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغي حَتى تَفِئ إِلى أمْرِ الله?[الحجرات:9] .
فهذا عهد الله إليكم وميثاقه عليكم في التعاون على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فرضاً من الله واجبا، وحكما من الله لازما. فأين عن الله تذهبون وأنى تؤفكون، وقد جأبت الجبابرة في الآفاق شرقا وغربا، وأظهروا الفساد وامتلأت الأرض ظلما وجوراً فليس للناس ملجأً، ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء. فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للجور والظلم، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين من ذرية خاتم النبيئين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين ونصر الله مع النبئيين والصديقين.(1/52)
واعلموا معاشر البربر أني ناديتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واتروه، وقل ناصروه، وقتل إخوته وأبوه وجده وأهلوه. فاجيبوا داعي الله فقد دعاكم إلى الله، قال الله تعالى: ?وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ?[الأحقاف: 32] . أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد.
وأنا إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب جداي، وحمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار في الجنة عماي، وخديجة [الصديقة] وفاطمة بنت أسد الشفيقة برسول الله جدتاي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله سيدة نساء العالمين، وفاطمة بنت الحسين [سيدة بنات] ذراري النبيين أُمَّاي، والحسن والحسين إبنا رسول الله أبواي، ومحمد وإبراهيم إبنا عبدالله المهدي والزاكي، أخواي.
فهذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله مالي وعليه ما عليَّ ومن أبى فحظه أخطى، وَسَيرى ذلك عالم الغيب والشهادة إني لم أسفك له دما ولا أستحللت له محرماً ولا مالا واستشهدك [يا] أكبر الشاهدين شهادة، وأستشهد جبريل وميكائيل أني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك.
اللهم مزجي السحاب، وهازم الأحزاب، مسير الجبال سرابا بعد أن كانت صماً صلاباً، أسالك النصر لولد نبيك إنك على ذلك قادر.
قال: فخرج معه أهل نفوسه في ألف حتى إذا بلغوا شِلْف مدينة يقال لها: (مليانة). فلما دخلها أجابوه، وقال له أهل الرأي منهم: الرأي أن تحصن هذه المدينة فإنك إن ظفرت بطلبتك لم يضرك تحصينها وإن هزمت لجأت إليها، فعزم على ذلك.(1/53)
فعاجله عبدالوهاب بن رستم فقاتله مدة طويلة، وتفانى بينهم ألوف من الناس، فكانت الهزيمة متى وقعت بعبدالوهاب ثاب إليه المدد لأن البلد بلده وأهل ديانته، ومتى نزلت بإدريس لم يجد غير أصحابه المنهزمين يعاود بهم الحرب.
فلما رأى إدريس ذلك، لحق بطنجة، فنزل مدينة يقال لها: وليلي . وكان أهل طنجة والسوس الأقصى صفرية ومعتزلة فأجابوه وبايعوه، وكان بعضهم رءآه يقاتل بفخ مع الحسين حتى خضب قميصه بالدم، فلما رأوه عرفوه، فلم ينثنوا عنه وشهدوا له أنه إدريس الذي قاتل المسودة هو وإخوته وبنو أبيه حتى قتلوا، واجتمعوا إليه وقلدوه أمرهم، فسار فيهم سيرة أهل الحق، وأظهر العدل، وقدم الفضل، ولم يستبد برأيه دونهم، وكان رجلا متواضعاً خاشعاً كثير الصلاة حسن التلاوة للقرآن في آناء الليل والنهار، فأنَّسَهُم ما رأوا منه، وألقوا إليه مقاليد أمورهم وفرحوا به وأجمعوا عليه.(1/54)
[عزم إدريس على قتال الخوارج]
وأخبرني عيسى بن إدريس عن أبيه عن إسحاق بن راشد مولاهم، قال: لما رأى إدريس رغبة من تبعه في الجهاد، ندبهم إلى قتال الخوارج: عبدالوهاب بن رستم، فإن رزقه الله الظفر سار إلى المسودة، فأجابوه إلى ذلك وهذا بعدما أقام بطنجة سبع سنين.
فاتصل الخبر بالفضل بن روح بن حاتم فضاق به ذرعا،ً وعلم أنه إن ظفر بابن رستم فلا طاقة له به، فكتب إلى هارون الرشيد بذلك، وأنه إن ظفر بابن رستم فلا طاقة له به، وإن ظفر بالقيروان فلا راد له عن مصر؛ فلما قرأ هارون كتابه وجه إليه بالأموال والرجال.
وثار على الفضل بن روح عبدالله بن الجارود الربعي، فبلغ المغيرة بن بشر بن روح المهلبي - عامل الفضل على تونس - ذلك، وأنه كاتب إدريس، فبعث إليه بخيل ليأتوا به، فلما أتوه تنحى عنهم، وأُخِذَ ابنه، فأُتِي به المغيره. فلما راى عبدالله ذلك نادى بأصحابه، ثم أتى تونس فلما رأه المغيرة تحصن في داره وسأله أمانه على نفسه وأهله حتى يلحق بالقيروان ويخلي له تونس. فأجابه إلى ذلك، فخرج إلى القيرروان.
واجتمع أهل البلد وأهل خراسان والأبناء على عبدالله بن الجارود واجمعوا جميعا على إخراج الفضل من القيروان وجميع آل المهلب، فإن رضي هارون بذلك وإلا دعوا إلى إدريس وبايعوا له.
فلما اتصل عزمهم بالفضل وجه إليهم عبدالله بن سليمان المهلبي والجنيد بن سنان، والنظر بن العنبر، وجماعة من أصحابه، فدعوا عبدالله إلى الصلح، وأعطوه كل ما يريد، فأبى إلا إخراج الفضل.(1/55)
ووجه بخيل فأخذ الجنيد بن سنان، وأبا المغيرة، وأبا النظر، فلما راى عبدالله [بن سليمان] أن أصحابه قد أُخِذُوا أراد أن يخلصهم من أيديهم فحمل عليهم، فقتلوه وقتلوا من أصحابه، وافلت بقيتهم فلحق بالقيروان. فأمر الفضل ببيت المال ففتح وأعطى أصحابه، - وكانت الأموال عنده كثيرة مما يبعث إليه هارون الرشيد ويمده - فجعل أصحابه يأخذون منه الأرزاق ويتسللون إلى عبدالله بن الجارود حتى لحق عامتهم به، فلما كثر عند عبدالله الجموع كتب إلى الفضل يأمره بالخروج عن القيروان فإنه لا حاجة للأبناء بولايته، فإن فعل وإلا حاربه.
فأبى الفضل إلا محاربته وأخرج إليهم عبدالله بن يزيد ابن حاتم ابن عمه، وابن وقدان الأنصاري، وضم إليهما من معه من القواد، وأبناء خراسان والتقوا هم وعبدالله بن الجارود بموضع يقال له: طينابس، واقتتلوا قتالاً شديداً يوم الأحد والأثنين وكثرت القتلى بين الفريقين، فانهزم عبدالله بن يزيد بن حاتم، وقُتل هارون بن وقدان الأنصاري. فلحقوا بالقيروان، واتَّبعهم عبدالله بن الجارود ودخل القيروان وأمَّن الناس.
وكتب إلى هارون الرشيد يسأله أن يوليه على القيروان، وأن الأبناء لا ترضى إلا به، وحبس الفضل بن روح، وهناد بن وبره كاتبه، - وكتب إلى الخليفة هارون جماعة الجند: إنا قد رضينا بعبدالله بن الجارود.(1/56)