الحمد لله الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء؛ إذ كل معطٍ ينتقص سواه، هو المنان بفوائد النعم وعوائد المزيد، ضمن عيالة خلقه، وأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه، وليس فيما سئل بأجود منه فيما لم يسأل، وما اختلف عليه دهرٌ فيختلف فيه الحال، ولو وهب ما شقت عنه معادن الجبال، وضحكت عنه أصداف البحار من فلز اللجين وسبائك العقيان، ونثار الدر وحصائد المرجان لبعض عبيده لما أثر ذلك في جوده، ولا أنفد سعة ما عنده، ولكان عنده من ذخائر الأفضال ما لم تنفده مطالب السؤال ولا تخطر لكثرته على بالٍ؛ لأنه الجواد الذي لا تنقصه المواهب ولا يبخله إلحاح الملحين، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فما ظنكم بمن هو هكذا سبحانه وبحمده.
أيها السائل أعقل، عما سألتني عنه، ولا تسألن أحداً عنه بعدي فإني أكفيك مؤونة الطلب، وشدة التعمق في المذهب، وكيف يوصف الذي سألتني عنه وهو الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته، وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزته، وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم، وهم من ملكوت القدس بحيث هم، ومن معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: ?سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم?[البقرة:32].
فعليك أيها السائل بما دلك عليه القرآن من صفته وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته فأتم به واستضئ بنور هدايته فإنما هي نعمةٌ وحكمةٌ أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه وفي سنة رسول الله عليه وآله وسلم ولا عن أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك.(1/209)


إعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من تفسير الغيب المحجوب، فقالوا: آمنا به كل من عند ربنا فمدح الله سبحانه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخاً، فاقتصر على ذلك.
واعلم أن الله لم يحدث فيمكن فيه التغيير والانتقال، ولم تتصرف في ذاته كرور الأحوال، ولم تختلف عليه عقب الأيام والليالي وهو، الذي خلق الخلق على غير مثالٍ امتثله، ولا مقدارٍ احتذى عليه من خالقٍ كان قبله، بل أرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمهم بليغ تقويته، ما دلنا باضطرار قيام الحجة له علينا على معرفته، ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهياً، وما زال هو الله الذي ليس كمثله شيءٌ عن صفة المخلوقين متعالياً، وانحسرت وجل وعز عن أن تناله الأبصار فيكون بالعيان موصوفاً، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهات رويات المتفكرين وليس له مثلٌ فيكون بالخلق مشبهاً، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأنداد منزهاً كذب العادلون بالله إذ شبهوه بأصنافهم وحلوه تحلية المخلوقين بأوهامهم، وكيف لما لا يقدر قدره مقدار في رويات الأوهام لأنه أجل من أن تحده ألباب البشر بتفكيرٍ، وهو أعلى من أن يكون له كفؤٌ فيشبه بنظيرٍ، فسبحانه وتعالى عن جهل المخلوقين، فسبحانه وتعالى عن إفك الجاهلين، فأين يتاه بأحدكم وأين يدرك ما لا يدرك والله المستعان.
قال السيد الإمام أبو طالبٍ الحسني رضي الله تعالى عنه ما تشتمل هذه الخطبة عليه من ذكر عجز المخلوقين عن المعرفة عن جميع صفات الله تعالى المراد به العجز عن معرفة معلوماته ومقدوراته وعجائب صنعه وخلقه على التفصيل، ومقادير نعمه على خلقه، وما اختص به تعالى من علم الغيوب الذي لم يطلع البشر عليه.(1/210)


- وبه قال: حكى أبو الحسين الزاهد صاحب أخبار الناصر للحق عليه السلام أن أصناف الرعية على طبقاتهم ازدحموا عليه في مجلسه حين دخل آمل فخطب خطبةً، قال فيها:
أيها الناس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون يعبدون الشجر والحجر، ولا يعرفون خالقاً ولا يدينون ديناً، فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام وأتلطف في العطف بهم حتى دخلوا فيه إرسالاً، وأقبلوا إلي إقبالاً، وظهر له الحق وعرفوا التوحيد والعدل، فهدى الله بي منهم زهاء مائتي ألفٍ من رجلٍ وامرأةٍ، فهم الآن يتكلمون في التوحيد والعدل، مستبصرين ويناظرون عليها مجتهدين ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الصلوات المكتوبات والفرائض المفروضات وفيهم من لو وجد ألف دينارٍ ملقًى على الطريق لم يأخذ ذلك لنفسه وينصبه على رأس مزراقةٍ ينشده ويعرفه، ثم قاموا بنصرتي وناصبوا آباءهم وأبناءهم وأكابرهم للحرب في هواي واتباع أمري في نصرة الحق وأهله، لا يولي أحدٌ منهم عن عدوه ولا يعرف غير الإقدام، فلو لقيت منهم ألف جريحٍ لم تر مجروحاً في قفاه وظهره، وإنما جراحاتهم في وجوههم وأقدامهم، يرون الفرار من الزحف إذا كانوا معي كفراً والقتل شهادةً وغنماً.(1/211)


- قال السيد أبو طالبٍ الحسني: هذه كانت صفتهم في أوائل أيامه عليه السلام، ثم ابتدأ الشر فيهم في أواخرها، ثم قال عليه السلام في آخر خطبته: وأنتم أيضاً معاشر الرعية فليس عليكم دوني حجابٌ، ولا على بابي بوابٌ، ولا على رأسي خلقٌ من الزبانية، ولا أحدٌ من أعوان الظلمة، كبيركم أخي وشابكم ولدي، لا آنس إلا بأهل العلم منكم ولا استريح إلا إلى مفاوضتكم، فسلوني عن جميع أمر دينكم وما يحييكم من العلم وتفسير القرآن، فإنا نحن تراجمته وأولى الخلق به، وهو الذي قرن بنا وقرنا به، فقال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني مخلفٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) والله ولي توفيقكم لرشدكم وحسبي الله وحده وعليه توكلت وإليه أنيب.
- وبه قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني إملاءً، قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمدٍ بن مسلمٍ المقري، قال: حدثني جعفر بن محمدٍ الحسني إملاءً، قال: حدثنا أحمد بن بشرٍ الرقي الكوفي، قال: حدثنا عبد الله بن يونس عن أبيه.
عن عمر بن صالحٍ العجلي، قال: سمعت زيد بن علي عليه السلام يقول في خطبته: الحمد لله مذعناً له بالاستكانة، مقرا له بالوحدانية، وأتوكل عليه توكل من لجأ إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ورسوله المرتضى، الأمين على وحيه المأمون على خلقه، المؤد إليهم ما استرعاه من حقه حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الناس أوصيكم بتقوى الله فإن الموصي بتقوى الله لم يدخر نصيحةً ولم يقصر عن إبلاغ عظةٍ، فاتقوا الله في الأمر الذي لا يصل إلى الله تعالى إن أطعتموه، ولا ينتقص من ملكه شيءٌ إن عصيتموه، ولا تستعينوا بنعمته على معصيته، وأجملوا في طلب مباغي أموركم وتفكروا وانظروا.(1/212)


o وبه قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمدٍ البغدادي الآبنوسي، قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق بن جعفرٍ، قال: حدثني أبو الحسن منصور بن نصرٍ، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمدٍ بن جعفرٍ بن محمدٍ، قال:
حدثني أبي محمد بن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) أن أميرالمؤمنين عليا عليه السلام خطب الناس وهو متوجهٌ إلى البصرة يحرض الناس على الجهاد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيتها الأمة إن الجهاد سنام الدين، وإن الله فرض الجهاد وعظمه فجعله نصرته وناصره، وأيم الله ما صلحت الدنيا والدين إلا به، ألا وإن الشيطان قد استجلب خيله ونصب خدعه، فمن أطاع شيطانه لم يعتدل له دينه، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد أنكروا منكراً اكتسبوه، وطلبوا بدمٍ سفكوه، وعرضٍ شتموه وحرمةٍ انتهكوها، وإن أول عدلهم على أنفسهم يريدون أن يرضعوا أما فطمت وأن يحيوا بدعةً أميتت، فيا خيبةً للداعي إلى من دعا، لو قيل له: إلى من دعوت ومن إمامك وإلى من سببك لانزاح الباطل عن مقامه، ولرأى الطريق واضحاً حيث نهج، والذي نفسي بيده أن هؤلاء القوم ليعلمون أني محق وهم مبطلون وأني معذرٌ إليهم، فإن قبلوا فالتوبة مقبولةٌ والذنب مغفورٌ وإن أبوا أعطيتهم حد السيف وكفى به ناصراً لمؤمنٍ ومنتصراً لمظلومٍ.
o وبه قال: أخبرنا أبي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا أبو محمدٍ عبد الله بن أحمد بن سلامٍ، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا أحمد بن راشدٍ، قال: حدثنا أبو معمرٍ، قال: حدثنا سليمان بن راشدٍ، عن حميد بن مسلمٍ.(1/213)

51 / 100
ع
En
A+
A-