عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه خطب خطبة التوحيد، فقال: الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا من شيءٍ خلق ما كون، يستشهد بحدوث الأشياء على قدمه، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه، لم يخل منه مكانٌ فيدرك بأينيةٍ، ولا له شبح مثالٍ فيوصف بكيفيةٍ ولم يغب عن شيءٍ فيعلم بحيثيةٍ، مباينٌ لجميع ما جرى في الصفات، وممتنعٌ عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الأدوات، وخارجٌ بالكبرياء والعظمة من جميع تصرم الحالات، لا تحويه الأماكن لعظمته، ولا تدركه الأبصار لجلالته، ممتنعٌ من الأوهام أن تستغرقه، وعن الأذهان أن تتمثله.
وفي روايةٍ أخرى: فليست له صفةٌ تنال، ولا حد يضرب له فيه بالأمثال، كل دون صفاته تحابير اللغات، وضل هنالك تصاريف الصفات، وحار دون ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجبٌ من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول.
واحدٌ لا بعددٍ، دائمٌ لا بأمدٍ، قائمٌ لا بعمدٍ، ليس بجنسٍ فتعادله الأجناس، ولا بشبحٍ فتضارعه الأشباح، ليس لها محيصٌ عن إدراكه لها، ولا خروجٌ عن إحاطته بها، ولا احتجابٌ عن إحصائه لها، ولا امتناعٌ من قدرته عليها، كفى بإتقان صنعه لها آيةٌ، وبتركيب خلقها عليه دلالةٌ، وبحدوث ما فطر على قدمه شهادةٌ، فليس له حد منسوبٌ، ولا مثلٌ مضروبٌ، ولا شيءٌ هو عنه محجوبٌ، تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوا كبيراً.
- وبه قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب البجلي، قال: حدثنا علي بن عبد العزيز العكبري، قال: حدثنا الحسن بن محمدٍ بن يحيى عن أبيه، عن تميم بن أبي ربيعة الرياحي، عن زيد بن علي، عن أبيه عليه السلام أن الحسين بن علي عليه السلام خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(1/204)
أيها الناس خط الموت على بني آدم كخط القلادة على جيد الفتاة، ما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب عليه السلام إلى يوسف وأخيه، وإن لي مصرعاً أنا لاقيه، كأني أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات غبراً وعفراً، قد ملأت مني أكراشها رضى الله رضانا أهل البيت، فصبراً على بلائه ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله حرمته وعترته، ولن تفارقه أعضاؤه، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس تقر بهم عينه، وتنجز بهم عدته، من كان فينا باذلاً مهجته فليرحل فإني راحلٌ غداً إن شاء الله، ثم نهض إلى عدوه فاستشهد (صلوات الله عليهم).
o وبه قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى، قال: حدثنا أحمد بن علي الكرخي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سلام يذكر أن إبراهيم بن سليمان حدثهم عن علي بن أسباط المصري، قال: حدثنا الحسن بن علي البكري.
عن عبد الرحمن بن جندب بن عبد الله الأزدي، عن أبيه قال: سمعت أمير المؤمنين عليا عليه السلام يخطب بهذه الخطبة يقول: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، لا نشرك بالله شيئاً ولا نتخذ من دونه إلهاً ولا وليا.
والحمد لله الذي لا مقنوط من رحمته ولا مخلو من نعمته، ولا مستنكف عن عبادته، بكلماته قامت السماوات واستقرت الأرضون، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح وسار في جو السماء السحاب وقامت على حدودها البحار، قاهرٌ يخضع له المتعززون، ويذل طوعاً وكرهاً له العالمون.
نحمده كما حمد نفسه وكما ربنا أهله، ونستعينه ونستغفره ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما تخفي النفوس، وما تجن البحار وما تواري الأسرار، وما تغيظ الأرحام وما تزداد وكل شيءٍ عنده بمقدارٍ، ونستهدي الله الهدى ونعوذ به من الضلالة والردى.(1/205)
ونشهد أن محمداً عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه، قد بلغ رسالات ربه وجاهد في الله المولين عنه العادلين به، وعبد الله حتى أتاه اليقين صلى الله عليه وآله وسلم.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي لا تنفد منه نعمةٌ ولا تفقد له رحمةٌ، الذي رغب في التقوى وزهد من الدنيا، وحذر من المعاصي وتعزز بالبقاء وذلل خلقه بالموت والفناء، فالموت غاية المخلوقين وسبيل العالمين ومعقودٌ بنواصي الباقين، فاذكروا الله يذكركم وادعوه يستجب لكم، وأدوا فطرتكم فإنها سنةٌ من نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وهي لازمةٌ لكم واجبةٌ عليكم، فليؤدها كل امرئٍ منكم، عن عياله ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، حرهم ومملوكهم، عن كل إنسانٍ منهم نصف صاعٍ من بر.
قال أبو العباس: وسمعنا من روايةٍ أخرى صاعاً من بر، أو صاعاً من شعيرٍ أو تمرٍ، فأطيعوا الله فيما فرض عليكم وأمركم به من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وصوم شهر رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى نسائكم وما ملكت أيمانكم.
أطيعوا الله فيما نهاكم عنه من قذف المحصنات وإتيان الفاحشات، وشرب الخمر، وبخس المكيال والميزان، وشهادة الزور، والفرار من الزحف، عصمنا الله وإياكم بالتقوى وجعل الآخرة خيراً لكم ولنا من الأولى. إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ:?قُلْ هُوَ الله أَحَد?[الإخلاص:1]، ثم جلس.
ثم قام فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأستهدي الله الهدى وأعوذ به من الضلالة والردى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.(1/206)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله، أرسله على حين فترةٍ من الرسل وانقطاعٍ من الوحي، وطموسٍ من العلم، ودروسٍ من معالم الهدى، فصدع بوحيه، وجلى غمرات الظلم بنوره، وقمع مشرف الباطل بحقه حتى أنار الإسلام، ووضحت الأحكام فصلى الله عليه وآله وعليهم رحمة الله وبركاته.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله والاعتصام بوثائق عراها، والمواظبة على رعايتها فإنها جنةٌ حصينةٌ وعقدةٌ متينةٌ وغنيمةٌ مغتنمةٌ، قبل أن يحال بينكم وبينها بانقطاعٍ من الآجال، وحدوثٍ من الزوال ودنو من الانتقال، فاذكروا من فارق الدنيا ولم يأخذ منها فكاك رهنه، ولا براءة أمنه، فخرج منها سليباً محسوراً قد أتعب الملائكة نفسه التي هي مطلعةٌ عليها، وهو مسودٌ وجهه، مزرقةٌ عيناه، باديةٌ عورته، يدعو بالويل والثبور، لا يرحم دعاؤه ولا يفتر عنه من عذابها كذلك نجزي كل كفورٍ، واذكروا من فارق الدنيا وقد أخذ منها فكاك رهنه وبراءة أمنه فخرج منها آمناً مرحوماً موفقاً معصوماً، قد ظفر بالسعادة وفاز بالخلود، وأقام بدار الحيوان وعيشة الرضوان، حيث لا تنوب الفجائع ولا تحل القوارع، ولا تموت النفوس، عطاؤهم غير مجذوذٍ.
ثم أخذ في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ودعا على أهل الشرك، ثم قرأ:?إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان?[النحل:90] إلى آخر الآية.
- وبه قال: حكى القاضي أبو عبد الله الوليدي في كتاب الألفاظ، قال: سمعت الناصر للحق الحسن بن علي يقول في بعض ما كان يخاطب فيه أهل مجلسه ويعظهم به:(1/207)
أيها الناس اتقوا الله وكونوا قوامين بالقسط كما أمركم الله، وأمروا بالمعروف وانهوا، عن المنكر، وجاهدوا رحمكم الله في الله حق جهاده وعادوا الأبناء والآباء والإخوان في الله، فإن هذه الدار دار قلعةٍ ودار بلغةٍ ونحن سفرٌ والدار التي خلقنا لها أمامنا، وكأن قد نقلنا إليها ووردناها، فتزودوا من العمل الصالح فإن طريق الجنة خشنٌ وبالاجتهاد يبلغ إليه، إني لا أغر نفسي ولا أخدعها بالأماني، ولا أطمع أن أنال الجنة بغير عملٍ، ولا أشك في أن من أساء وظلم منا ضوعف له العذاب وأنا ولد الرجل الذي دل على الهدى، وأشار إلى أبواب الخير، وشرع هذه الشرائع، وسن هذه السنن والأحكام، فنحن أولى الخلق باتباعه واقتفاء أثره، واحتذاء أمثاله والاقتداء به.
o وبه قال: أخبرنا أبي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا أبو محمدٍ عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن سلامٍ، قال: أخبرنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن سليمان، قال: حدثنا علي بن الخطاب الخثعمي، قال: حدثنا أحمد بن محمدٍ الأنصاري.
عن بشيرٍ عن زيد بن أسلم: أن رجلاً سأل أمير المؤمنين عليا عليه السلام في مسجد الكوفة فقال له: يا أمير المؤمنين هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا وبه معرفةً؛ فغضب علي عليه السلام ونادى: الصلاة جامعةٌ، فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله، ثم صعد المنبر وهو مغضبٌ مٌتغير اللون، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال:(1/208)