ثم أزلفت الجنة للمتقين مخضرةٌ مخضارةٌ للناظرين، فيها درجاتٌ لا يبيد نعيمها ولا يبؤس ساكنها، أمنوا الموت فصفا لهم ما فيها، فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذة للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفى، مع أزواجٍ مطهرةٍ، وحورٌ عينٌ كأنهن الياقوت والمرجان، مع حليةٍ وآنيةٍ من فضةٍ ولباس السندس الأخضر، والفواكه الدائمة، وتدخل عليهم الملائكة فتقول: سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فلا تزال الكرامةٌ لهم حين وفدوا إلى خالقهم وقعدوا في داره ونالهم سلامٌ قولاً من رب رحيمٍ.
فاسألوا الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة الذين خلقوا لها وخلقت لهم.
عباد الله اتقوا الله تقية من كنع فخنع، وخنع فوجل، ووجل فحذر، واجتنب هائباً ونجا هارباً وأفاد ذخيرةً وطاب سريرةً، وقدم للمعاد واستظهر بالزاد، وكفى بالله منتقماً وخصيماً، وكفى بالجنة ثواباً ونوالاً، وكفى بالنار عقاباً ونكالاً.
- وبه قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمدٍ البغدادي، قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق بن جعفرٍ الكوفي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثني موسى بن إبراهيم المروزي، قال: حدثني إسحاق بن محمدٍ بن عبد الله التيمي، عن أبي الجارود أن زيد بن علي عليه السلام خطب أصحابه حين ظهر، فقال:
الحمد لله الذي من علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلةً وأسماعاً واعيةً، وقد أفلح من جعل الخير شعاره والحق دثاره، وصلى الله على خير خلقه الذي جاء بالصدق من عند ربه وصدق به، الصادق محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم الطاهرين من عترته وأسرته، والمنتجبين من أهل بيته وأهل ولايته.(1/199)
أيها الناس العجل العجل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، فوراءكم طالبٌ لا يفوته هاربٌ إلا هاربٌ هرب منه إليه، ففروا إلى الله بطاعته واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجةٌ على من بعدكم إن الله تعالى يقول:?لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ?[التوبة:122]، ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُون?[الأنفال:21]، ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[آل عمران:105].
عباد الله، إنا ندعوكم إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
عباد الله إن الله دمر قوماً اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.(1/200)
عباد الله كأن الدنيا إذا انقطعت وتقضت لم تكن، وكأن ما هوكائنٌ قد نزل، وكأن ما هو زائلٌ عنا قد رحل، فسارعوا في الخير، واكتسبوا المعروف تكونوا من الله بسبيل، فإنه من سارع في الشر واكتسب المنكر ليس من الله في شيءٍ، أنا اليوم أتكلم وتسمعون ولا تنصرون، وغداً بين أظهركم هامةً فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردني إليه وهو الحاكم بيننا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا هذه الجامعة غير المفرقة، العادلة غير الجائرة فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه، ومن يليه من أهل الباطل، ودعائم النفاق فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن رد علينا دعوتنا وأبى إجابتنا واختار الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية فالله من أولئك بريءٌ وهو يحكم بيننا وبينهم، إذا لقيتم القوم فادعوهم إلى أمركم فلأن يستجيب لكم رجلٌ واحدٌ خيرٌ لكم مما طلعت عليه الشمس من ذهبٍ وفضةٍ، وعليكم بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام بالبصرة والشام لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريحٍ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما أقول وكيلٌ.
عباد الله لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل الله، ولكن البصيرة، ثم القتال؛ فإن الله يجازي عن اليقين أفضل جزاءٍ يجزي به على حق إنه من قتل نفساً يشك في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق، عباد الله البصيرة البصيرة.
- قال أبو الجارود: فقلت له: يا ابن رسول الله يبذل الرجل نفسه على غير بصيرةٍ، قال: نعم إن أكثر من ترى عشقت نفوسهم الدنيا فالطمع أرداهم إلا القليل الذين لا تخطر على قلوبهم الدنيا ولا لها يسعون فأولئك مني وأنا منهم.(1/201)
- وبه قال: أخبرني أبو الحسن البستي ببغداد، قال: أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني حسين بن نصرٍ المهلبي، عن عمر بن شبة، عن علي بن محمدٍ المدائني، عن أبي بكرٍ الهذلي، قال: أتى أبا الأسود الدؤلي نعى أميرالمؤمنين عليه السلام وبيعة الحسن عليه السلام فصعد المنبر فخطب الناس ونعى عليا عليه السلام، وقال في خطبته:
إن رجلاً من أعداء الله المارقة في دينه اغتال أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة ومثواه في مسجده وهو خارجٌ لتهجده في ليلةٍ يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله، فيا لله من قتيلٍ وأكرم به وبروحه من روحٍ عرجت إلى الله بالبر والتقوى والإيمان والهدى والإحسان ولقد أطفأ به نوراً لله في أرضه لا يضيء بعده، وهدم ركناً من أركان الإسلام لا يشاد مثله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين عليه السلام، ورحمه الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا، ثم بكى حتى اختلجت أضلاعه.
ثم قال: وقد أوصى بالإمامة إلى ابن رسول الله وابنه، وسليله وشبيهه في خلقه وهديه، وإني لأرجو أن يجبر الله به ما وهى، ويسد به ما انثلم، ويجمع الشمل، ويطفئ به نيران الفتنة فبايعوه ترشدوا، فبايعت الشيعة كلها، وهرب قومٌ فلحقوا بمعاوية.
o وبه قال: أخبرنا محمد بن علي العبدكي، قال: حدثنا محمد بن يزداد، قال: حدثني يعقوب بن إسحاق ومحمد بن أبي سهلٍ، قالا: حدثنا محمد بن عمرٍو، قال: أخبرنا أبو أحمد الزبيري، عن عبد الجبار بن عياشٍ، عن سلمة بن كهيلٍ.
عن حجر بن عدي، قال: لما قفل علي أمير المؤمنين عليه السلام من صفين وأكثر كثيرٌ من أصحابه والمحكمة القول في الحكمين أمر فنودي بالصلاة جامعةٌ، ثم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال:(1/202)
اللهم هذا مقام من فلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) نشدتكم الله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم نجيبكم إلى كتاب الله قلت لكم: إنهم ليسوا بأهل دينٍ ولا قرآنٍ ولقد صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً، وهم شر أطفالٍ ورجالٌ امضوا على صدقكم وحقكم فإنما رفعوا المصاحف خديعةً ومكيدةً، فرددتم قولي وقلتم: لا بل نقبل منهم فقلت لكم: اذكروا قولي لكم ومعصيتكم إياي وإذ أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحي القرآن وأن يميتا ما أمات القرآن؛ لأنهما إن حكما بحكم القرآن لم يكن لنا خلافٌ على من حكم بما في القرآن وإن أبيا كنا من حكمها براء وكنا على رأس أمرنا، قالوا أفعدل تحكيم الرجال في الدماء، قال إنا لسنا الرجال حكمنا إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مخطوطٌ مستورٌ بين الدفتين وإنما ينطق بحكمه الرجال، قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته فيما بينك وبينهم. قال: ليعلم الجاهل وينيب العالم، ولعل الله يصلح في هذه المدة أمر هذه الأمة، ادخلوا مصركم، فدخل أصحابه عن آخرهم.
o وبه قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا عبد العزيز بن إسحاق، قال: حدثنا منصور بن نصر بن الفتح، قال: حدثنا أبو الحسين زيد بن علي العلوي، قال: حدثني علي بن جعفر بن محمدٍ، قال: حدثني الحسين بن زيد بن علي عن أبيه، عن جده.(1/203)