الحمد لله الذي هو أولٌ لا بدئ مما ولا باطن فيما ولا ممازج مع ما، ولا حال بما، ليس بشبحٍ فيرى، ولا بجسمٍ فيتجزأ، ولا بذي غايةٍ فيتناها، ولا بمحدثٍ فيتصرف، ولا بمستترٍ فيتكشف، ولا كان بعد أن لم يكن، بل حارت الأوهام أن تكيف المكيف للأشياء، من لم يزل لا بمكانٍ، ولا يزول لاختلاف الأزمان، ولا يقلبه شأنٌ بعد شأنٍ، البعيد من تخيل القلوب، المتعالي عن الأشباه والضروب، علام الغيوب، فمعان الخلق عنه منفيةٌ وسرائرهم عليه غير خفيةٍ، المعروف بغير كيفيةٍ، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأقدار، ولا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام.
o وبه قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن زيد الحسيني رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا الناصر للحق الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، قال: حدثنا أخي الحسين بن علي، عن محمد بن الوليد، عن محمد ابن أبي عميرٍ، عن هشامٍ.
عن إسماعيل الجعفي، قال: قال لي أبو جعفرٍ محمد بن علي (عليهما السلام): خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام الناس بعد أن استخلف بستة أيامٍ، فحمد الله وأثنى عليه وأفاض في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: أيها الناس إنما مبدأ وقوع الفتن أهواءٌ تتبع وأحكامٌ تبتدع، يخالف فيها كتاب الله تعالى يتولى فيه رجالاٌ فلو أن الحق خلص لم يكن اختلافٌ ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولكن يؤخذ من هذا ضغثٌ ومن هذا ضغثٌ فيمزجان فيمتزجان هنالك، استحوذ الشيطان على أوليائه دون الذين سبقت لهم من الله الحسنى، اليوم عملٌ ولا ثوابٌ، وغدًا ثوابٌ ولا عملٌ، كونوا مفاتيح الهدى؛ بنا نفى الله ربق الذل عن أعناقكم، وبنا يفتح ويختم لا بكم.
والله أيها الناس لقد أدركت أقواماً كانوا يبيتون سجداً لله وقياماً كان صرير النار في آذانهم، إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح العاصف.(1/194)
أيها الناس إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فروضاً فلا تنقصوها، وأمسك عن أشياء لم يمسك عنها نسياناً بل رحمةً من الله لكم فاقبلوها ولا تكلفوها، حلالٌ بينٌ وحرامٌ بينٌ وشبهاتٌ بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن رتع حولها يوشك أن يواقعها.
- وبه قال: أنشدنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون ببغداد، قال: أنشدنا أبو بكرٍ محمد بن القاسم الأنباري النحوي، قال: أنشدنا أحمد بن يحيى:(يعني ثعلبٌ لأبي العتاهية):
إليه ومال الناس حيث يميل
جوادٌ ولم يستغن قط بخيل
وصاحبها حتى يموت عليل
فإن غناء نفع الباكيات قليل
ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا مالت الدنيا مع المرء رغبت
ولم يفتقر يوماً من الدهر معدمٌ
أرى علل الدنيا علي كثيرةٌ
إذا انقطعت عني من العيش مدتي
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
o وبه قال: أخبرنا محمد بن علي العبدكي، قال: حدثنا محمد بن يزداد، قال: حدثنا يعقوب بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن أحمد الرازي، قال: حدثنا أبو زهيرٍ عبد الرحمن بن مغرى الدوسي، قال:(1/195)
حدثنا عوانة بن الحكم، قال: حدثنا من حضر خطبة علي عليه السلام التي تسمى الغراء خطب بها في مسجد الكوفة فكان مما حفظ منه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على رسول الله محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الذي علا بكل مكرمةٍ، وبان بكل فضيلةٍ، وجل عن شبه الخليقة، وتنزه عن الأفعال القبيحة، وصدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه، وأحسن إليهم في قسمه، ولا إله إلا هو الواحد القهار العزيز الجبار، الذي لم يتناه في الأوهام بتحديدٍ، ولم يتمثل في العقول بتصويرٍ، ولم تنله مقاييس المقدرين، ولا استخرجته نتائج الأوهام، ولا أدركته تصاريف الاعتبار، فأوجدته سبحانه محدوداً، ولا شخصاً مشهوداً، ولا وقتته الأوقات فتجري عليه الأزمان والغايات، ولم يسبقه حالٌ فيجري عليه الزوال، فسبحانه من عظيمٍ عظم أمره، ومن كبيرٍ كبر قدره، ليس بذي كبرٍ امتدت عليه النهايات فكبرته تجسيداً، ولا بذي عظمٍ التحقت به الغايات فعظمته تجسيماً، علا عن التجسيم والتجسيد والتصوير والتحديد علواً كبيراً، شواهده بذلك قائلةٌ، وأحكامه فيه فاصلةٌ، قد هجمت العقول عليها بدلالتها، فظهر لديها تبيان حكمتها حتى جلت عن المرتابين التهم وكشفت عنهم الظلم.
- قال السيد الإمام أبو طالبٍ الحسني رضوان الله تعالى عليه معنى قوله عليه السلام: لا تدركه الشواهد: أنه تعالى لا يدرك من طريق المشاهدة، وأصل الشاهد بالحقوق مأخوذٌ من المشاهدة، ولهذا يقال: عرفت هذا الأمر من شاهد الحال.
وقوله: لم يتناه في الأوهام بتحديد: معناه إنما يقع في الأوهام من صفات المحدودين فالله مخالفٌ له ومنزهٌ عنه؛ لأنه ليس بمحدودٍ.(1/196)
وقوله عليه السلام: لم تنله مقاييس المقدرين، معناه أن تقدير من يقدر فيه بقياسه أنه مشبهٌ بخلقه وموصوفٌ بالتحديد والتمثيل، فقياسه فاسدٌ باطلٌ لا يثبت به ما قدره.
وقوله عليه السلام: (ولا أدركته تصاريف الاعتبار فأوجدته سبحانه محدوداً)، معناه أن من يعتبر صفاته بصفات المخلوقين، فاعتباره فاسدٌ؛ لأن الاعتبار الصحيح لا يثبته محدوداً مشبهاً بخلقه، بل شواهده تقضي بخلافه كما، قال عليه السلام.
o وبه قال أحمد: أخبرنا أبي رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن سلامٍ، قال: أخبرنا أبي، قال: حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: أخبرنا فرج بن فردة، عن مسعدة بن صدقة.
عن جعفر بن محمدٍ، عن أبيه عن جده (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين عليه السلام شيع جنازةً فلما وضع الميت في لحده عج أهله وبكوا، فقام أمير المؤمنين عليه السلام، فقال وهو قائمٌ على قدميه:
على من تبكون؟ أما والله لو عاينتم ما عاين ميتكم لأذهلتكم معاينتكم عن البكاء، ثم قال:
الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأستهدي الله الهدى وأعوذ به من الضلالة والردى، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أهل بيته.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقت لكم الآجال وجعل لكم أسماعاً لتعي ما عناها وأبصاراً لتجلوا، عن غشاها، وأفئدةً لتفهم ما دهاها في تركيب صورها ومدد عمرها، فإن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يهملكم سداً، ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً بل أكرمكم بالنعم السوابغ، وأرفدكم بالرفد الروافد، وأحاط بكم الإحصاء، وأرصد لكم الجزاء في السراء والضراء.(1/197)
فاتقوا الله عباد الله وأجدوا في الطلب ونجاة الهرب، وبادروا بالعمل قبل منقطع المنهدات، وهادم اللذات، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجعاتها ولا تتوقى سوآتها غرور حائلٍ، وشجى قاتلٌ وسنادٌ مائلٌ، تضنى مستطرفها وتردي مستزيدها وتخيل مصرعها، وتصرم حبالها فاتعظوا عباد الله بالعبر، واعتبروا بالأثر، وازدجروا بالنذر، حل طالب المنية، وضمنتم بيت التراب، ودهمتكم الساعة بنفخة الصور، وبعثرة القبور، وسياقة المحشر إلى الحساب بإحاطة قدرة الجبار، كل نفسٍ معها سائقٌ وشهيدٌ، سائقٌ يسوقها لمحشرها، وشاهدٌ يشهد عليها بعملها، وأشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون، فاربحت الأرض لنداء المنادي وكشفت عن ساقٍ، وكان يوم التلاق، وكورت الشمس وحشرت الوحوش وارتجت الأفئدة، ونزل بأهل النار من الله سطوةٌ مٌجتاحةٌ، وعقوبةٌ متاحةٌ، وقربت الجحيم لها لجبٌ وكلبٌ ولهبٌ ساطعٌ، وتغيظٌ وتلظ وزفيرٌ ووعيدٌ، تأجج جحيمها وغلى حميمها وتوقد سمومها، لا يهرم خالدها، ولا يضعن مقيمها ولا تفصم كبولها معهم ملائكة الزجر يبشرونهم بنزلٍ من حميمٍ وتصلية جحيمٍ، هم عن الله محجوبون، ولأوليائه مفارقون وإلى النار منطلقون، حتى إذا أتوا جهنم قالوا: ما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ فلو أن لنا كرةً فنكون من المؤمنين، قيل لهم: ?وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ?[الصافات:24]، وجهنم تناديهم وهي مشرفةٌ عليهم إلي بأهلي وعزة ربي لأنتقمن اليوم من أعدائه، ثم يناديهم ملكٌ من الزبانية، ثم يسحبهم حتى يلقيهم في النار على وجوههم، ثم يقول: ذوقوا عذاب الحريق.(1/198)