الباب الرابع عشر في الخطب والمواعظ وما يتصل بذلك
o وبه قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى، قال: حدثنا الحسن بن فرج بن زهيرٍ البغدادي، قال: حدثنا أحمد بن محمدٍ أبو بكرٍ الرسغي، قال: حدثنا علي بن هاشم الرقي، عن يحيى بن همام الحلواني، عن مبشر بن إسماعيل.
عن الحسن، قال: كنت جالساً بالبصرة وأنا حينئذٍ غلامٌ أتطهر للصلاة إذ مر بي رجلٌ راكبٌ بغلةً شهباء متلثمٌ بعمامةٍ سوداء فقال لي: يا حسن أحسن وضوءك يحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، يا حسن أما علمت أن الصلاة مكيالٌ وميزانٌ، قال: فرفعت رأسي فتأملت فإذا هو علي بن أبي طالبٍ عليه السلام فأسرعت في طهوري وجعلت أقفو أثره إذ حانت منه التفاتةٌ، فقال لي: يا غلام ألك حاجةٌ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين تفيدني كلاماً ينفعني الله به في الدنيا والآخرة، قال: يا غلام إنه من صدق الله نجا، ومن أشفق من ذنبه أمن الردى، ومن زهد في هذه الدنيا قرت عيناه بما يرى من ثواب الله غداً.
ثم قال: يا غلام ألا أزيدك ؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين، قال: إن سرك أن تلقى الله وهو عنك راضٍ فكن في هذه الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً، وعليك بالصدق في جميع أمورك تنجو مع الناجين غداً، يا غلام إن تزرع هذا الكلام نصب عينيك ينفعك الله به.(1/179)


ثم أطلق عنان البغلة عن يده وقرص بطنها بعقبةٍ، فجعلت أقفو أثره إذ دخل سوقاً من أسواق البصرة فسمعته عليه السلام يقول: يا أهل البصرة يا أهل البصيرة، يا أهل المؤتفكة يا أهل تدمر -أربعاً- إذا كنتم بالنهار الدنيا تخدمون وبالليل على فرشكم تتقلبون وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفلون، فمتى ترمون الزاد ومتى تفكرون في المعاد؟!!، فقام إليه رجلٌ من السوقة فقال: يا أمير المؤمنين لا بد من طلب المعاش، قال: أيها الرجل، إن طلب المعاش لا يصدفك عن طلب الآخرة، ألا قلت لا بد من طلب الاحتكار فأعذرك إن كنت معذوراً، فتولى الرجل وهو يبكي فسمعته عليه السلام يقول: أقبل علي يا ذا الرجل أزدك تبياناً: إنه لا بد لكل عاملٍ من أن يوفى في القيامة أجر عمله وعامل الدنيا إنما أجره النار.
ثم خرج من السوق والناس في رنةٍ من البكاء إذ مر بواعظٍ يعظ الناس، فلما بصر بأمير المؤمنين عليه السلام سكت ولم يتكلم بشيءٍ فقال عليه السلام: فكم وإلى كم توعظون فلا تتعظون، قد وعظكم الواعظون، وزجركم الزاجرون، وحذركم المحذرون وبلغكم المبلغون، ودلت الرسل على سبيل النجاة، وقامت الحجة وظهرت المحجة، وقرب الأمر والأمد والجزاء غداً وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.
يا أيها الناس إنه لم يكن لله تبارك وتعالى في أرضه حجةٌ ولا حكمةٌ أبلغ من كتابه، ولا مدح الله أحداً منكم إلا من اعتصم بحبله، وإنما هلك عندما عصاه وخالفه واتبع هواه، واعلموا أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر والله ما هو شيءٌ قلته من تلقاء نفسي، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من عبدٍ جاهد نفسه فردها عن معصية الله إلا باهى الله به كرام الملائكة، ومن باهى الله به كرام الملائكة فلن تمسه النار، ثم قال: ?فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ?[محمد:21])).(1/180)


- وبه قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن عبيدٍ، قال: حدثنا علي بن العباس بن الوليد الحميري، قال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، قال: حدثنا إسماعيل بن يحيى بن عبد الله.
عن فطر بن خليفة أن الحسن بن علي عليه السلام لما أصيب علي عليه السلام قام في الناس خطيباً، فقال: الحمد لله وهو للحمد أهلٌ، الذي من علينا بالإسلام وجعل فينا النبوة والكتاب، واصطفانا على خلقه فجعلنا شهداء على الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ابن البشير النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه السراج المنير، ونحن أهل البيت الذي كان جبريل ينزل فيهم ومنهم يصعد، ونحن الذين افترض الله مودتنا وولايتنا فقال:?قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى?[الشورى23].
أيها الناس، لقد فارقكم في هذه الليلة رجلٌ ما سبقه من المسلمين الأولين وما يدركه الآخرون، هيهات هيهات لطال ما قلبتم له الأمور في مواطن بدرٍ وأحدٍ وحنينٍ وخيبر جرعكم رنقاً وسوغكم علقاً فلستم بملومين على بغضكم إياه.
أيها الناس، لقد فقدتم رجلاً لم يكن بالملومة في أمر الله ولا النومة عن حق الله ولا السروقة من مال الله، أعطى الكتاب عزائمه ودعاه فأجابه، وقاده فاتبعه (صلوات الله عليه) ومغفرته ونحتسب أمير المؤمنين عند الله وأستودع الله ديني وأمانتي وخواتيم عملي.
o وبه قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن علي العبدكي، قال: حدثنا جعفر بن علي الحائرى، قال: حدثنا علي بن الحسين البغدادي، عن مهاجرٍ العامري، عن الشعبي.
عن الحارث أن عليا عليه السلام لما اختلف أصحابه خطبهم حين اجتمعوا عنده مبتدئاً بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: أما بعد:(1/181)


فذمتي بذلك رهينةٌ وأنا به زعيمٌ، من صرحت له العبر فيما بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن ارتكاب الشبهات، وإنه لن يظمأ على التقوى زرع قومٍ ولن يبلى على الهدى سنخ أصلٍ، وإن الخير والخيرة في معرفة الإنسان قدره، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، وإن أحب خلق الله إلى الله عبدٌ أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف وأضمر اليقين وزهرت مصابيح الهدى في قلبه، فسهل على نفسه الشديد وقرب عليها البعيد، فلم يدع مبهمةً إلا كشف غطائها ولا مظلمةً إلا قصد جلاءها ولا معضلةً إلا بلغ مداها، معاينٌ طريقته مشاهد من كل امرئ حقيقته، شرب نهلاً وسلك طريقاً سهلاً، يحط حيث القرآن حط رحله، وأين نزل كان منزله فهو من خاصة أولياء الله.(1/182)


وإن أبغض خلق الله إلى الله عبدٌ وكله الله إلى نفسه، جائرٌ عن قصد السبيل مشغوفٌ بكلام بدعةٍ، فهو فتنةٌ لمن افتتن بعبادته ضال عن هدي من كان قبله مضل لمن اقتدى به، حمال خطايا غيره رهينٌ بخطيئته، قمش جهلاً من الجهال فأوطأ الناس غشوةً، غاراً بأوباش الفتنة قد لهج بالصلاة والصوم فسماه أشباهٌ من الناس عالماً، ولم يعن في العلم يوماً سالماً، بكر فاستكثر وما قل منه خيرٌ مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجنٍ وأكثر من غير طائلٍ قعد حاكماً بين الناس ضامناً لتخليص ما اشتبه عليهم، إن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً من رأيه فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت إن أصاب وإن أخطأ لم يعلم لأنه لا يعلم أصاب أم أخطأ لا يحسب أن العلم في شيءٍ مما ينكر ولا أن من وراء ما بلغه غايةً، إن قاس شيئاً بشيءٍ لم يكذب بصره وإن أظلم عليه أمرٌ كتم ما يعلم من نفسه لكيلا يقال: لا يعلم، ركاب عشواتٍ وخائض غمراتٍ ومفتاح ظلماتٍ ومعتقد شبهاتٍ، لا يعتذر مما لا يعلم ولا يعض على العلم بضرسٍ قاطع فيسلم، يذرو الرواية ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء وتبكي منه المواريث ويستحل بقضائه الفرج الحرام ويحرم بقضائه الفرج الحلال، لا ملي بإصدار ما ورد عليه ولا أهلٌ لإصلاح ما فرط منه.
فأبصروا معادن الجور واستقصوا بالذم آثارها واستروحوا إلى طاعة من لا تعذرون بجهالته، ثم ردوا هذا عذبٌ فراتٌ واحذروا هذا ملحٌ أجاجٌ.
واعلموا أن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام وما فصلته الأنبياء في عترة نبيكم فأين يتاه بكم عن أمرٍ تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هؤلاء مثلها فيكم وهم لكم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب حطةٍ، وباب السلم، فادخلوا في السلم كافةً، خذوا عني عن خاتم المرسلين حجة من ذي حجة قالها في حجة الوداع: ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي إنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).(1/183)

45 / 100
ع
En
A+
A-