كتبت إليك كتابي هذا إن بقيت أو فنيت، أوصيك بتقوى الله، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، فإن الله يقول:?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103]، وأي سببٍ أوثق من سببٍ يكون بينك وبين الله تعالى، فأحي قلبك بالموعظة، ونوره بالحكمة، ومرنه على الزهد، وقوه باليقين، وذلله بالموت، وقرره بالفنى، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام والليالي، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من قبلك، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر فيما فعلوا، وأين حلوا، وعما انقلبوا، فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة، ونزلوا دار الغربة، فكأنك عن قليلٍ قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والنظر فيما لم تكلف، وأمسك عن طريقٍ إذا خفت ضلالته؛ فإن الوقوف عن حيرة الطريق خيرٌ من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف وكن من أهله، وانكر المنكر بلسانك ويدك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائمٍ.
وفي روايةٍ أخرى: وعود نفسك الصبر على المكروه، ونعم الخلق الصبر، وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك؛ فإنك تلجئها إلى كهفٍ حريزٍ، ومانعٍ عزيزٍ، وأخلص في المسألة لربك، فإن في يديه العطاء والحرمان، وأكثر من الاستخارة، واحفظ وصيتي.(1/74)


ومن هاهنا اتفقت الروايتان: ولا تذهبن عنك صفحاً؛ فإن خير القول ما نفع، واعلم يا بني أنه لا غنى لك عن حسن الارتياد، وبلاغ الزاد مع خفة الظهر، فلا تحمل على ظهرك فوق بلاغك فيكون ثقلاً ووبالاً، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل زادك فيوافيك به حيث ما تحتاج إليه فاغتنمه، فإن أمامك عقبةً كؤداً لا محالة، وإن مهبطها يكون على جنةٍ أو على نارٍ؛ فارتد يا بني لنفسك قبل نزولك، وأحسن إلى غيرك كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضى لهم، ولرب بعيدٍ أقرب من قريبٍ، والغريب من ليس له حبيبٌ، ولربما أخطأ البصير قصده، وأبصر الأعمى رشده.
يا بني قطيعتك الجاهل تعدل مواصلة العاقل، قلة التوقي أشد زلةٍ، وعلة الكاذب أقبح علةٍ، وليس مع الاختلاف ائتلافٌ، من أمن الزمان خانه، ومن تعاظم عليه أهانه، ومن لجأ إليه أسلمه، وأس الدين صحة اليقين، وخير المقال ما صدقه الفعال.
سل يا بني عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار، واحتمل ضيم المدل عليك، واقبل عذر من اعتذر إليك، وكن من أخيك عند صرمه لك على الصلة، وعند تباعده على الدنو منه، وعند جموده على البذل حتى كأنه ذو نعمةٍ عليك، وإياك أن تفعل ذلك في غير موضعه أو تضعه بغير أهله، لن لمن غالظك فيوشك أن يلين لك، ولا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، واعلم أن الانحراف عن القصد ضد الصواب وآفة ذوى الألباب، فإذا اهتديت لقصدك فكن أخشى ما يكون لربك.(1/75)


وفي روايةٍ أخرى: وإياك والاتكال على الأماني فإنها بضايع النوكى، وتثبيطٌ عن الآخرة والأولى، وخير حظ المرء قرينٌ صالحٌ، قارب أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم، ولا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين خليلك صلحًا، وذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب، كفر النعمة لؤمٌ، وصحبة الأحمق شؤمٌ، واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك في دعائك وتكفل بإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك وهو رحيمٌ بصيرٌ، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة ولم يعاجلك بالنقمة وفتح لك باب المتاب والأسباب فمتى شئت سمع دعاءك ونجواك، فأفض إليه بحاجتك وبث ذات نفسك وأسند إليه أمورك، ولا تكن مسألتك فيما لا يعنيك ولا مما يلزمك خباله ويبقى عليك وباله فإنه يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسناً أو قبيحاً.
واعلم يا بني أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في منزلٍ قلعة، وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو هاربه، ولا يفوت طالبه فأكثر ذكر الموت وما تهجم عليه وتفضي بعد الموت إليه واجعله أمامك حيث تراه فيأتيك وقد أخذت حذرك، واذكر الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم فإن ذلك يزهدك في الدنيا ويصغرها عندك، مع أن الدنيا قد نعت إليك نفسها وتكشفت لك عن مساوئها، وإياك أن تغتر بما تراه من إخلاد أهلها إليها وتكالبهم عليها، فإنما هم كلابٌ عاديةٌ، وسباعٌ ضاريةٌ بعضها على بعض، يأكل عزيزها ذليلها، وكثيرها قليلها.(1/76)


واعلم يا بني أن من كانت مطيته الليل والنهار، فإنه يسار به وإن لم يسر، وإن الله قد أذن بخراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن تزهد فيما زهدتك فيه منها، ورغبت عما رغبت عنها؛ فأنت أهلٌ لذلك، وإن كنت غير قابلٍ نصيحتي فاعلم علماً يقيناً أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وإنك في سبيل من كان قبلك فاخفض يا بني في الطلب، واجمل في المكتسب، فرب طلبٍ جر إلى حربٍ، وانظر إلى إخوانك الذين كانوا لك في الدنيا مؤانسين، ومعك لله ذاكرين متكاتفين، قد خلوا عن الدور، وأقاموا في القبور إلى يوم النشور، وكان قد سلكت مسلكهم ووردت منهلهم، وفارقت الأحبة، ونزلت دار الغربة، ومحل الوحشة، وجاورت جيراناً افترقوا في التجاور، واشتغلوا عن التزاور، فاعمل لذلك المصرع وهول المطلع، فيوشك أن تفارق الدنيا وتنزل بك العظمى، وتصير القبور لك مثوى، واعمل ليومٍ يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجيء فيه بصفوف الملائكة المقربين حول العرش يجمعون على إنجاز موعد الآخرة، وزوال الدنيا الفانية، وتغير الأحوال، وتبدل الآمال من عدل القضاء وفصل الجزاء في جميع الأشياء.
فكم يومئذٍ من عينٍ باكيةٍ، وعورةٍ باديةٍ، تجر إلى العذاب الأليم، وتسقى ماء الحميم في مساكن الجحيم، إن صرخ لم يرحم، وإن صبر لم يؤجر؛ فاعمل لتلك الأخطار تتخلص من النار، وتكن مع الصالحين الأبرار.
يا بني كن في الرخاء شكوراً، وعند البلاء صبوراً، ولربك ذكوراً، وليكن ما بينك وبينه معموراً.
يا بني، لن تزال بخيرٍ ما حمدت ربك، وعرفت موعظته لك، فإن قلوب المؤمنين رقيقةٌ، وأعمالهم وثيقةٌ، ونياتهم صدقٌ وحقيقةٌ، فالزم محاسن أخلاقهم، وجميل أفعالهم، لعلك تحاسب حسابهم، وتثاب ثوابهم.(1/77)


يا بني، أزحت عنك العلة، وألزمتك الحجة، وكشفت عنك الشبهة، وظهرت لك الآثار، ووضحت لك البينات، وما أنت بمخلدٍ في الدنيا، فعيشها غرورٌ، وما يتم فيه لذى لب سرورٌ، يوشك ما ترى أن ينقضي وتمر أيامه، ويبقى وزره وآثامه، إن الدار التي أصبحنا فيها بالبلاء محفوفةٌ، وبالفناء موصوفةٌ، كل ما ترى فيها وبين أهلها دولٌ سجالٌ وعوارٍ مقبوضةٌ.
بينا أهلها فيها في رخاءٍ وسرورٍ إذا هم في بلاءٍ وغرورٍ، وتتغير فيها الحالات وتتابع فيها الرزيات، ويساق أهلها للمنيات، فهم فيها أغراضٌ ترميهم سهامها، ويغشاهم حمامها، قد أكلت القرون الماضية (أجسادهم) وأسرعت في الأمم الباقية، أكلهم ذعافٌ ناقعٌ وحمامٌ واقعٌ ليس عنه مذهبٌ ولا منه مهربٌ، إن أهل الدنيا سفرٌ نازلون، وأهل ظعن شاخصون، فكأن قد انتقلت بهم الحال، ونودوا بالارتحال فأصبحت منهم قفاراً، ومن جميعهم بواراً.. والسلام عليك.
o وبه قال: أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمدٍ البغدادي، قال: أخبرنا أبوالفرج علي بن الحسين الأصبهاني، قال: حدثنا أحمد بن عيسى، قال: حدثنا الحسين بن نصرٍ، قال: حدثنا زيد بن المعدل، عن يحيى بن شعيبٍ، عن أبي مخنفٍ، عن فضيل بن خديجٍ.
عن الأسود الكندي والأجلح قالا: توفي أمير المؤمنين عليه السلام وهو ابن أربعٍ وستين سنةً.
سنة أربعين في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلةً من شهر رمضان، وولي غسله ابنه الحسن بن علي عليه السلام وعبيد الله بن العباس.
وكفن في ثلاثة أثوابٍ ليس فيها قميصٌ، وصلى عليه ابنه الحسن عليه السلام وكبر خمس تكبيراتٍ، ودفن عند صلاة الصبح، ودعا الحسن عليه السلام بعد دفنه إياه ابن ملجم -لعنه الله تعالى- فأتي به فأمر بضرب عنقه فقال له: إن رأيت أن تأخذ علي العهود أني أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ماذا فعل صاحبي بمعاوية فإن كان قد قتله وإلا قتلته، ثم عدت إليك فتحكم في بحكمك.(1/78)

24 / 100
ع
En
A+
A-