اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبْيِعِ الأَوَّلِ، وَيُقَالُ: وُلِدَ فِيْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْهُ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ حِيْنَ طَلَعَ الْفَجْرُ، قَالَ: وَكَانَ إِبْلِيْسُ يَخْرُقُ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، فَلَمَّا وُلِدَ عِيْسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- حُجِبَ عَنْ ثَلاَثِ سَمَوَاتٍ وَكَانَ يَصِلُ إِلَى أَرْبَعٍ، قَالَ: فَلَمَّا وُلِدَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- حُجِبَ مِنَ السَّبْعِ، وَرُمِيَتِ الشَّيَاطِيْنُ بِالنُّجُوْمِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا قِيَامُ السَّاعَةِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ: لَهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيْعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: انْظُرُوا إِلَى الْعَيُّوْقِ فَإِنْ كَانَ قَدْ رُمِيَ بِهِ فَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، فِيْ حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ.
وَبِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيْمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْمُؤَدّبُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْقُوْبَ إِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ سُفْيَانَ الشَّيْبَانِي النِّسَوِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا السَّرَّاجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُوْرِ بْنِ عَلويَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ بِـ(الْمَصِيْصَةِ)، عَنْ يُوْنُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيْلِ، قَالَتِ الْعَفَّارِيَّةُ: فَإِنْ هُمُ اعْتَصَمُوْا بِاللَّهِ ثَبَتْ بِهِمْ إِلاَّ هُوا الضَّالَّةُ، الْمُضِلَّةُ وَيُزَيَّنُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ البُخْلُ وَالظُّلْمَةُ، فَإِنَّ فِيْهَا يُهْلَكُ لاَ مُحَالَةَ، فَضَحِكَ(1/31)
إِبْلِيْسُ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: الآنَ أَقْرَرْتُمْ عَيْنِي وَطَيَّبْتُمْ نَفْسِي.
قَالَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِيْ جُدُوْبَةٍ شَدِيْدَةٍ، وَضِيْقٍ مِنَ الزَّمَانِ، فَسُمِّيَتِ السَّنَةُ الَّتِي حُمِلَ فِيْهَا بِرَسُوْلِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- سَنَةَ الْفَتْحِ وَالابْتِهَاجِ وَذَلِكَ أَنَّهَا اخْضَرَّتْ لَهُمُ الأَرْضُ، وَحَمَلَتْ لَهُمُ الأَشْجَارُ، وَأَتَاهُمُ الْوُفُوْدُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَخُصِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ خَصْباً عَظِيْماً، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَوْمَئِذٍ فِيْ الإِحْيَاءِ صَاحِبُ أَحْكَامِ قُرَيْشٍ وَمَآثِرِ الْعَرَبِ، يَخْرُجُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَوَشِّحاً يَطُوْفُ بِالْبَيْتِ، وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى جَمَالِ شَخْصِ رَسُوْلِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- مُتَّصِلاً بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ نُوْرٍ، فَكَانَ يَقُوْلُ: مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي إِذَا خَرَجْتُ أَطُوْفُ بِالْبَيْتِ أَنْظُرُ إِلَى جَمَالِ شَخْصٍ بَيْنَ عَيْنَيَّ كَأَنَّهُ النُّوْرُ لاَ أَمَلُّ مِنْ رُؤْيَتِهِ، قَالَ: فَتَقُوْلُ قُرَيْشٌ لَكِنَّا نَحْنُ مَا نَرَى مِثْلَ الَّذِي تَرَى يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ.
(1/32)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَانَ مِنْ دَلاَلاَتِ حَمْلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ نَطَقَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَقَالَتْ: حُمِلَ بِمُحَمَّدٍ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَهُوَ أَمَانُ الدُّنْيَا وَسِرَاجُ أَهْلِهَا، وَلَمْ تَبْقَ كَاهِنةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلاَ قَبِيْلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلاَّ حَجبتْ عَنْ صَاحِبِهَا، وَانْتُزِعَ عِلْمُ الْكَهَانِةَ مِنْهَا، وَلَمْ يَبْقَ سَرِيْرٌ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوْكِ الدُّنْيَا إِلاَّ أَصْبَحَ مَنْكُوْساً وَالْمَلِكُ مُخْرَساً لاَ يَنْطِقُ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَصَوَّتَ وَحْشُ الْمَشْرِقِ إِلَى وَحْشِ الْمَغْرِبِ بِالْبَشَارَاتِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِحَارِ سَبَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِيْ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُوْرِهِ، نَادَى فِيْ الأَرْضِ، وَنَادَى فِيْ السَّمَاءِ أَنْ: أَبْشِرُوُا فَقَدْ آنَ لأَبِي الْقَاسِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الأَرْضِ مَيْمُوْنَاً مُبَارَكاً.
قَالَ: فَبَقِيَ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَمْلاً لاَ تَشْكُوْ وَجَعاً، وَلاَ رِيْحاً، وَلا مُغَثِّياً، وَلاَ مَا يَتَعَرَّضُ لِلنِّسَاءِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ الْحَوَامِلِ، وَهَلَكَ أَبُوْهُ وَهُوَ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَقَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يِا إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، بَقِيَ نَبِيُّكَ هَذَا يَتِيْماً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلاَئِكَةِ: أَنَا لَهُ وَلِيٌّ وَحَافِظٌ وَنَصِيْرٌ، فَتَبَرَّكُوْا بِوُلُوْدِهِ وَمَوْلُوْدِهِ مَيْمُوْنٌ مُبارَكٌ، وَفَتَحَ اللَّهُ لِمَوْلِدِهِ كُلَّ أَبْوَابِ سَمَوَاتِهِ وَجِنَانِهِ.
فَكَانَتْ آمِنَةُ تُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَقُوْلُ: أَتَانِي آتٍ حِيْنَ مَرَّ بِي مِنْ حَمْلِي سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَكَزَنِي فِيْ الْمَنَامِ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: يَا آمِنَةُ(1/33)
إِنَّكِ حَمَلْتِ بِخَيْرِ الْعَالَمِيْنَ طُرًّا، فَإِذَا وَلَدْتِهِ فَسَمِّيْهِ مُحَمَّداً -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-، وَاكْتُمِي شَأْنَكِ، فَكَانَتْ تُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهَا، وَتَقُوْلُ: لَقَدْ أَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ النِّسَاءَ، وَلاَ يَعْلَمُ بِي أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي ذَكَرٌ وَلاَ أُنْثَى، وِإِنِّي لَوَحِيْدَةٌ فِيْ الْمَنْزِلِ، وَعَبْدُالْمُطَّلِبِ قَالَتْ: فَسَمِعْتُ وَجْبَةً عَظِيْمَةً وَأَمْراً شَدِيْداً فَهَالَنِي، وَذَلِكَ يَوْمُ الإِثْنَيْنِ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ جِنَاحَ طَيْرٍ أَبْيَضٍ قَدْ مَسَحَ عَلَى فُؤَادِي، فَذَهَبَ عَنِّي الرُّعْبُ وُكُلُّ وَجَعٍ كُنْتُ أَجِدُهُ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِشُرْبَةٍ بَيْضَاءَ ظَنَنْتُهَا لَبَنَاً وَكُنْتُ عَاطِشَةً، فَتَنَاوَلْتُهَا، فَشَرِبْتُهَا فَأَضَاءَ مِنِّي نُوْرٌ عَالٍ، ثُمَّ رَأَيْتُ نِسْوَةً كَالنَّخْلِ طُوْلاً كَأَنَّهُنْ مِنْ بَنَاتِ عَبْدِ مَنَافٍ، يَجْدِفْنَ بِي وَأَنَا أَعْجَبُ وَأَقُوْلُ: وَاغَوْثَاه مِنْ أَيْنَ عَلِمْنَ بِي هَؤُلاَءِ، فَاشْتَدَّ بِي الأَمْرُ وَأَنَا أَسْمَعُ الْوَجْبَةَ فِيْ كُلِّ سَاعَةٍ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَهْوَلُ إِذْ أَنَا بِدِيْبَاجٍ أبْيَضٍ قَدْ مُدَّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُوْلُ: خُذُوْهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، قَالَتْ: وَرَأَيْتُ رِجَالاً قَدْ وَقَفُوا فِيْ الْهَوَاءِ بِأَيْدِيْهِمْ أَبَارِيْقُ فِضَّةٍ وَإِنَاءٍ يَرْشَحُ مِنِّي عَرَقاً كَالْجُمَانِ أَطْيَبُ رِيْحاً مِنَ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ، وَأَنَا أَقُوْلُ: لَيْتَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَدْ دَخَلَ عَلَيَّ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَنِّي نَائِي، قَالَتْ: فَرَأَيْتُ قِطْعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ حَيْثُ لاَ أَشْعُرُ، حَتَّى غَطَّتْ حُجْرَتِي، مَنَاقِيْرُهَا مِنَ(1/34)
الزُّمُرُّدِ، وَأَجْنِحَتُهَا مِنَ الْيَاقُوْتِ، فَكَشَفَ اللَّهُ لِي عَنْ بَصَرِي، فَأَبْصَرْتُ مِنْ سَاعَتِي تِلْكَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَرَأَيْتُ ثَلاَثَةَ أَعْلاَمٍ مَضْرُوْبَاتٍ: عَلَماً فِيْ الْمَشْرِقِ، وَعَلَماً فِيْ الْمَغْرِبِ، وَعَلَماً عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَنِي الْمَخَاضُ وَاشْتَدَّ بِي الأَمْرُ جِداً، وَكَأَنِّي مُسْنِدَةٌ إِلَى أَرْكَانٍ النِّسَاءِ، وَكَثُرْنَ عَلَيَّ، حَتَّى كَأَنَّ الأَيْدِي مَعِيَ فِيْ الْبَيْتِ وَلاَ أَرَى شَيْئاً فَوَلَدْتُ مُحَمَّداً -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَطْنِي دُرْتُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِهِ سَاجِدٌ قَدْ رَفَعَ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ كَالْمُتَضَرِّعِ الْمُبْتَهِلِ.
ثُمَّ رَأَيْتُ سَحَابَةً بَيْضَاءَ قَدْ أَقْبَلَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى غَشِيَتْهُ فَغُيِّبَ عَنْ وَجْهِي، فَسَمِعْتُ مُنَادِياً يُنَادِي وَيَقُوْلُ: طَوِّفُوا بِمُحَمَّدٍ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَأَدْخِلُوْهُ إِلَى الْبِحَارِ كُلِّهَا، لِيَعْرِفُوْهُ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ وَصُوْرَتِهِ، وَيَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ سُمِّيَ فِيْهِ الْمَاحِ الَّذِي لاَ يُبْقِي شَيْئاً مِنَ الشِّرْكِ إِلاَّ مُحِيَ بِهِ فِيْ زَمَانِهِ، ثُمَّ تَجَلَّتْ عَنْهُ فِيْ أَسْرَعِ مِنْ طَرْفِ الْعَيْنِ، فَإِذَا أَنَا بِهِ مُدْرَجٌ فِيْ ثَوْبٍ أَبْيَضٍ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ وَتَحْتَ حَرِيْرَةٍ خَضْرَاءَ قَدْ قَبِضَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَفَاتِيْحَ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطِبِ الأَبْيَضِ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُوْلُ: قَبِضَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عَلَى مَفَاتِيحِ النُّصْرَةِ، وَمَفَاتِيْحِ الرِّيْحِ، وَمَفَاتِيْحِ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ(1/35)