يَخْطَفُ أَبْصَارَ النَّاظِرِيْنَ دُوْنَهُ، فَخَتَمَ قَلْبِي فَامْتَلأَ نُوْرَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، ثُمَّ أَعَادَهُ مَكَانَهُ فَوَجَدْتُ بَرْدَ ذَاكَ الْخَاتَمِ فِيْ قَلْبِي دَهْراً.
ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ فَنَحَّى صَاحِبَهُ فَأَمَرَّ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وُمُنْتَهَى عَانَتِي فَالْتَأَمَ ذَاكَ الشّقُّ بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَنْهَضَنِي مِنْ مَكَانِي إِنْهَاضاً لَطِيْفاً.
فَقَالَ الأَوَّلُ لِلَّذِي شَقَّ بَطْنِي: زِنُوْهُ بِعَشْرَةِ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنُوْنِيْ فَرَجَحْتُهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: زِنُوْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنُوْنِي فَرَجَحْتُهُمْ.
ثُمَّ قَالَ: زِنُوْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ، فَوَزَنُوْنِي فَرَجَحْتُهُمْ.
قَالَ: دَعُوْهُ فَلَوْ وَزَنْتُمُوْهُ بِأُمَّتِهِ جَمِيْعاً لَرَجَحَهُمْ، ثُمَّ قَامُوا إِلَيَّ فَضَمُّوْنِي إِلَى صُدُوْرِهِمْ وَقَبَّلُوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، وَقَالُوا: حَبِيْبٌ لَمْ تُرْعَ، إِنَّكَ لَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنُكَ.
قَالَ: فبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ الْحَيُّ بِحَذَافِيْرِهِمْ؛ فَإِذَا ظِئْرِي أَمَامَ الْحَيِّ تَهْتِفُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، وَهِيَ تَقُوْلُ: يَا ضَعِيْفَاه.
قَالَ: فَأَكَبُّوا عَلَيَّ يُقَبِّلُوْنِي، وَيَقُوْلُوْنَ: يَا حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ ضَعِيْفٍ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا وَحِيْدَاه، قَالَ: فَأَكَبُّوا عَلَيَّ وَضَمُّوْنِي إِلَى صُدُوْرِهِمْ، وَقَالُوا: يَا حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ وَحِيْدٍ مَا أَنْتَ بِوَحِيْدٍ، إِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَالْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ.
ثُمَّ قَالَتْ: يَا يَتِيْمَاهُ اسْتُضْعِفْتَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِكَ لِضُعْفِكَ، فَأَكَبُّوْا عَلَيَّ وَضَمُّوْنِي إِلَى صُدُوْرِهِمْ وَقَبَّلُوْا رَأْسِي،(1/117)
وَقَالُوا: يَا حَبَّذَا أَنْتَ مِنْ يَتِيْمٍ مَا أَكْرَمَكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَوْ تَعْلَمُ مَاذَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ فَوَصَلُوا إِلَى شَفِيْرِ الْوَادِي.
فَلَمَّا بَصُرَتْ بِي ظِئْرِي، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَلاَ أَرَاكَ حَيًّا بَعْدُ، فَجَاءَتْ حَتَّى أَكَبَّتْ عَلِيَّ فَضَمَّتْنِي إِلَى صَدْرِهَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّنِي لَفِي حِجْرِهَا قَدْ ضَمَّتْنِي إِلَيْهَا، وَإِنَّ يَدِي لَفِي يَدِ بَعْضِهِمْ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ يَنْظُرُوْنَهُمْ، فَإِذَا هُمْ لاَ يَنْظُرُوْنَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ فِيْ بَعْضِ الْحَيِّ فَقَالَ: هَذَا الْغُلاَمُ أَصَابَهُ لَمَمٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الْجِنِّ، فَانْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْكَاهِنِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيُدَاوِيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، لَيْسَ بِي شَيءٌ مِمَّا تَذْكُرُوْنَ، أَرَى نَفْسِي سَلِيْمَةً وَفُؤَادِي صَحِيْحاً، وَلَيْسَ بِي مَا قُلْتَهُ، فَقَالَ لِيْ وَهُوَ زَوْجُ ظِئْرِي أَلاَ تَرَوْنَ ابْنِي كَلاَمُهُ كَلاَمٌ صَحِيْحٌ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُوْنَ بِابْنِي بَأْسٌ، فَاتَّفَقَ الْقَوْمُ عَلَى أَنْ يَذْهَبُوا بِي إِلَى الْكَاهِنِ فَاحْتَمَلُونِي، حَتَّى ذَهَبُوا بِي إِلَيْهِ، فَقَصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتِي، فَقَالَ: اسْكُتُوا حَتَّى أَعْلَمَ مِنَ الْغُلاَمِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ أَمْرِي مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ.
فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتِي ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا لَلْعَرَبِ! اقْتُلُوا هَذَا الْغُلاَمَ وَاقْتُلُوْنِي مَعَهُ، فَوَاللاَّتِ وَالْعُزَّى لإِنْ تَرَكْتُمُوْهُ لَيُبَدِّلَنَّ دِيْنَكُمْ، وَلَيُسَفِّهَنَّ أَحْلاَمَكُمْ وَأَحْلاَمَ آبَائِكُمْ، وَلَيُخَالِفَنَّ أَمْرَكُمْ، وَلَيَأْتِيَنَّكُمْ بِدِيْنٍ لَمْ تَسْمَعُوا(1/118)
مِثْلَهُ.
قَالَ: فَانْتَزَعَتْنِي ظِئْرِي مِنْ يَدِهِ، قَالَتْ: لأَنْتَ أَعْتَهُ مِنْهُ وَأَجَنُّ، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا يَكُوْنُ مِنْ قَوْلِكَ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، ثُمَّ احْتَمَلُوْنِي وَرَدُّوْنِي إِلَى أَهْلِي فَأَصْبَحْتُ مُعَرَّى مِمَّا فُعِلَ بِي، وَأَصَبَحَ أَثَرُ الشَّقِّ مَابَيْنَ صَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي كَأَنَّهُ شِرَاكٌ، فَذَلِكَ حَقِيْقَةُ قَوْلِي وَبِدْؤُ شَأْنِي)).
فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ أَمْرَكَ حَقٌّ، فَأَنْبِئْنِي بِأَشْيَاءَ أَسْأَلُكَ عَنْهَا؟.
قَالَ: ((سَلْ عَنْكَ))، وَكَانَ يَقُوْلُ لِلسَّائِلِيْنَ قَبْلَ ذَلِكَ: ((سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ)).
فَقَالَ يَوْمَئِذٍ لِلْعَامِرِيِّ: ((سَلْ عَنْكَ)) فَإِنَّهَا لُغَةُ بَنِي عَامِرٍ، فَكَلَّمَهُ بِمَا يَعْرِفُ.
فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: أَخْبِرْنِي يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَاذَا يَزِيْدَ فِيْ الشَّرِّ؟.
قَالَ: ((التَّمَادِي)).
قَالَ: فَهَلْ يَنْفَعُ الْبِرُّ بَعْدَ الْفُجُوْرِ؟.
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- : ((نَعَمْ، إِنَّ التَّوْبَةَ تَغْسِلُ الْحُوْبَةَ، وَإِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِيْ الرَّخَاءِ أَنْجَاهُ عِنْدَ الْبَلاَءِ)).
قَالَ الْعَامِرِيُّ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- : ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُوْلُ: لاَ أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَبْداً أَمْنَيْنِ، وَلاَ أَجْمَعُ لَهُ خَوْفَيْنِ، إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِيْ الدُّنْيَا خَافَنِي فِيْ يَوْمٍ أَجْمَعُ فِيْهِ عِبَادِي، وَإِنْ خَافَنِي فِيْ الدُّنْيَا أَمِنَنِي يَوْمَ أَجْمَعُ فِيْهِ عِبَادِي فِيْ حَضْرَةِ الْقُدُسِ؛(1/119)
فَيَدُوْمُ لَهُ أَمْنُهُ، وَلاَ أَمْحَقُهُ فِيْمَنْ أَمْحَقُ)).
قَالَ الْعَامِرِيُّ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى مَا تَدْعُو؟.
قَالَ: ((أَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَأَنْ تَخْلَعَ الأَنْدَادَ، وَتَكْفُرَ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، وَتُقِرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كِتَابٍ وَرَسُوْلٍ، وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِحَقَائِقِهِنَّ، وَتَصُوْمَ شَهْراً مِنَ السَّنَةِ، وَتُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِكَ، فَيُطَهِّرَكَ اللَّهُ بِهِ، وَيَطِيْبَ لَكَ مَالُكَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِذَا وَجَدْتَّ لَكَ إِلَيْهِ سَبِيْلاً، وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُقِرَّ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَبِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ)).
(1/120)
قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِذَا أَنَا فَعَلْتُ هَذَا فَمَا لِي؟ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- : ((جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِيْنَ فِيْهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)).
قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَلْ مَعَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا شَيءٌ، فَإِنَّهُ يُعْجِبُنَا الْوَطْأَةُ فِيْ الْعَيْشِ؟.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- :((نِعْمَ النَّصْرُ وَالتَّمَكِيْنِ فِيْ الْبِلاَدِ))، قَالَ: فَأَجَابَ الْعَامِرِيُّ وَأَنَابَ.
قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّرِيْفُ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَسَنِي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ فِيْ الْكُوْفَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَيْمُوْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْدَلاَنِي الْعَابِدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عِيْسَى، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ خَالِهِ.
عَنِ عَلِيّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- يَوْماً، حَتَّى جَاءَ إِلَى مَوْلِدِهِ بِمَكَّةَ فَطَرَحَ نَفْسَهُ فِيْهِ، قَالَ: ثُمَّ هَمِلَتْ عَيْنَاهُ.
قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَقَالَ: ((يَا مُحَمَّدُ))، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُوْلُ لَكَ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي إِنِّي أَعْلَمُ بِمَا ذَرَفَتْ بِهِ عَيْنُكَ مِنْكَ بِنَفْسِكَ، وَلَقَدْ حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى صُلْبٍ أَنْزَلَكَ، وَعَلَى بَطْنِ حَمَلَكَ، وَعَلَى حِجْرٍ كَفَلَكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(1/121)