قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا قِصَّتُهُ؟ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ قِيَامٌ نَتَرَامَى بِالْجُلَّةِ وَنَلْعَبُ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَاخْتَطَفَهُ مِنْ أَوْسَاطِنَا وَعَلا بِهِ عَلَى ذُرْوَةِ الْجَبَلِ وَنَحْنُ نَرَاهُ، حَتَّى شَقَّ مِنْ صَدْرِهِ إِلَى عَانَتِهِ وَمَا أَدْرِي مَا فَعَلَ بِهِ، وَمَا أَظُنُّكُمَا تَلْحَقَانِهِ إِلاَّ مَقْتُولاً.
قَالَتْ: فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأَبُوْهُ -تَعْنِي زَوْجَهَا- نَسْعَى سَعْياً فَإِذَا بِهِ قَاعِدٌ عَلَى ذُرْوَةِ الْجَبَلِ مُتَرَبِّعاً شَاخِصاً عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، يَبْتَسِمُ وَيَضْحَكُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ وَقَبَّلْتُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقُلْتُ: فَدَتْكَ نَفْسِي مَا الَّذِي دَهَاكِ؟.
قَالَ: ((خَيْرٌ يَا أُمَّةِ، بَيْنَا أَنَا السَّاعَةَ قَائِمٌ مَعَ إِخْوَتِي، نَتَقَاذَفُ بَيْنَنَا بِالْجَلَّةِ إِذْ أَتَانِي رَهْطٌ ثَلاَثَةٌ: فِيْ يَدِ أَحَدِهِمْ إِبْرِيْق فِضَّةٌ، وَفِيْ يَدِ الثَّانِي طَشْتٌ مِنْ زُمُرَّدَةٍ خَضْرَاءَ مَلآنَةً ثَلْجاً فَأَخَذُوْنِي مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى ذُرْوَةِ الْجَبَلِ، فَأَضْجَعَنِي بَعْضُهُمْ عَلَى الْجَبَلِ إِضْجَاعاً لَطِيْفاً، ثُمَّ شَقَّ مِنْ صَدْرِي إِلَى عَانَتِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حِسًّا وَلاَ أَلَماً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ جَوْفِي، فَأَخْرَجَ أَحْشَاءَ بَطْنِي فَغَسَّلَهَا بِذَلِكَ الثَّلْجِ فَأَنْعَمَ غَسْلَهَا، ثُمَّ أَعَادَهَا مَكَانَهَا.
وَقَامَ الثَّانِي فَقَالَ لِلأَوَّلِ: تَنَحَّ عَنِّي فَقَدْ أَنْجَزْتَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ؛ فَدَنَا مِنِّي فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيْ جَوْفِي، فَانْتَزَعَ قَلْبِي وَشَقَّهُ بِاثْنَتَيْنِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ نُكْتَةً سَوْدَاءَ مُتَلَوِّثَةً بِالدَّمِ فَرَمَىَ بِهَا، وَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ يَا(1/71)
حَبِيْبَ اللَّهِ ثُمَّ حَشَاهُ بِشَيءٍ كَانَ مَعَهُ وَرَدَّهُ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَتَمَهُ بِخَاتَمٍ مِنْ نُوْرٍ، فَأَنَا السَّاعَةَ أَجِدُ بَرْدَ الْخَاتَمِ فِيْ عُرُوْقِي وَمَفَاصِلِي.
وَقَامَ الثَّالِثُ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: تَنَحَّيَا فَقَدْ أَنْجَزْتُمَا مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيْهِ، ثُمَّ دَنَا الثَّالِثُ مِنِّي فَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى مَا بَيْنَ ثَغْرِي وَصَدْرِي إِلَى مُنْتَهَى عَانَتِي فَالْتَأَمَ الشّقُّ، وَأَنَا أَنْظُرُ.
ثُمَّ قَالَ الثَّالِثُ: زِنُوْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ؛ فَوَزَنُوْنِي فَرَجَحْتُهُمْ.
فَقَالَ: زِنُوْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ؛ فَوَزَنُوْنِي فَرَجَحْتُهُمْ.
قَالَ: دَعُوْهُ فَلَوْ وَزَنْتُمُوْهُ بِأُمَّتِهِ كُلِّهَا لَرَجَحَ بِهِمْ.
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَنْهَضَنِي مِنَ الأَرْضِ إِنْهَاضاً لَطِيْفاً، وَانْكبُّوا عَلَيَّ وَقَبَّلوا رَأْسِي وَمَا بَيْنَ عَيْنَيَّ، وَقَالُوا: يَا حَبِيْبَنَا إِنَّكَ لَنْ تُرَاعَ، وَلَوْ تَدْرِي مَا يُرَادُ بِكَ مِنَ الْخَيْرِ لَقَرَّتْ عَيْنَاكَ، وَتَرَكُوْنِي قَاعِداً فِيْ مَكَانِي هَذَا.
ثُمَّ جَعَلُوا يَطِيْرُونَ طَيَرَانَاً حَتَّى دَخَلُوْا خِلاَلَ السَّمَاءِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَلَوْ شِئْتِ لأَرَيْتُكِ مَوْضِعَ دُخُوْلِهِمْ)).
قَالَتْ: فَاحْتَمَلْتُهُ فَأَتَيْتُ مَنْزِلاً مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَعْدٍ، فَقَالَ النَّاسُ: إِذْهَبِي بِهِ إِلَى كَاهِنٍ حَتَّى يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَيُدَاوِيَهُ، فَقَالَ:-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-: ((مَا بِي شَيءٌ مِمَّا تَذْكُرُوْنَ، وَإِنِّي لأَرَى نَفْسِي سَلِيْمَةً وَفُؤَادِي صَحِيْحاً بِحَمْدِ اللَّهِ)).
فَقَالَ النَّاسُ: أَصَابَهُ لَمَمٌ أَوْ طَائِفٌ مِنَ الْجِنِّ.
قَالَتْ: فَغَلَبُوْنِي عَلَى رَأْيِي حَتَّى انْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى كَاهِنٍ(1/72)
فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ.
فَقَالَ: دَعِيْنِي أَنَا أَسْمَعُ مِنَ الْغُلاَمِ أَمْرَهُ، فَإِنَّ الْغُلاَمُ أَبْصَرُ بِأَمْرِهِ مِنْكِ، تَكَلَّمْ يَا غُلاَمُ.
قَالَتْ حَلِيْمَةُ: فَقَصَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- قِصَّتَهُ مَا بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، فَوَثَبَ الْكَاهِنُ قَائِماً عَلَى قَدَمَيْهِ فَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا لَلْعَرَبِ! يَا لَلْعَرَبِ! مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ اقْتُلُوا هَذَا الْغُلاَمَ وَاقْتُلُوْنِي مَعَهُ؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَرَكْتُمُوْهُ وَأَدْرَكَ مَدْرَكَ الرِّجَالِ، لَيُسَفِّهَنَّ أَحْلاَمَكُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّ أَدْيَانَكُمْ، وَلَيَدْعُوَنَّكُمْ إِلَى رَبٍّ لاَ تَعْرِفُوْنَهُ وَدِيْنٍ تُنْكِرُوْنَهُ.
قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ انْتَزَعْتُهُ مِنْ يَدِهِ وَقُلْتُ: لأَنْتَ أَعْتَهُ وَأَجَنُّ مِنِ ابْنِي، وَلَوْ عَلِمْتُ أَنْ هَذَا يَكُوْنُ مِنْ قَوْلِكَ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، أُطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَنْ يَقْتُلُكَ، فَإِنَّا لاَ نَقْتُلُ مُحَمَّداً، فَاحْتَمَلْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ مَنْزِلِي، فَمَا عَلِمَ اللَّهُ مَنْزِلاً مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَعْدٍ إِلاَّ وَقَدْ شَمَمْنَا مِنْهُ رِيْحَ الْمِسْكِ.
فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَنْزِلُ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ أَبْيَضَانِ فَيَغِيْبَانِ فِيْ ثِيَابِهِ وَلاَ يَظْهَرَانِ.
فَقَالَ النَّاسُ: رُدِّيْهِ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاخْرُجِي مِنْ أَمَانَتِكِ.
قَالَتْ: فَعَزَمْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعْتُ مُنَادِياً يُنَادِي: هَنِيْئاً لَكَ يَا بَطْحَاءَ مَكَّةَ الْيَوْمُ يُرَدُّ عَلَيْكَ النُّوْرُ وَالدِّيْنُ وَالْبَهَاءُ وَالْكَمَالُ فَقَدْ أَمِنْتِ أن تحربين أَوْ تَحْزَنِيْنَ أَبَدَ الآبِدِيْنَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِيْنَ.
قَالَتْ: فَرَكِبْتُ أُتَانِي(1/73)
وَحَمَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- بَيْنَ يَدَيَّ وَأَقْبَلْتُ أَسِيْرُ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى الْبَابِ الأَعْظَمِ أَبْوَابِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مُجْتَمِعُوْنَ فَوَضَعْتُهُ لأَقْضِيَ حَاجَةً لِي وَأُصْلِحَ ثِيَابِي فَسَمِعْتُ هَدَّةً شَدِيْدَةً فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ مَعَاشِرَ النَّاسِ أَيْنَ الصَّبِي؟، قَالُوا: أَيُّ الصِّبْيَانِ؟.
قَالَتْ: قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الَّذِي أنْضر اللَّهُ بِهِ وَجْهِي، وَأَغْنَى عَيْلَتِي، وَأَشْبَعَ جَوْعَتِي، رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذا أَدْرَكْتُ مِنْهُ سُرُورِي، وَأَمَلِي أَتَيْتُ بِهِ لأَرُوْحَهُ وَأَخْرُجُ مِنْ أَمَانَتِي اخْتَلَسَ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ قَبْلَ أَنْ تَمُسَّ قَدَمَيْهِ الأَرْضَ وَالَّلاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ لَمْ أَرَهُ لأَرْمِيَنَّ بِنَفْسِي مِنْ شَاهِقِ هَذَا الْجَبَلِ أَوْ لأَتَقَطَّعَنَّ إِرَباً إِرَباً.
(1/74)
قَالَ النَّاسُ: إِنَّا لَنَرَاكِ عَاتِيَةً مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَكِ مُحَمَّدٌ.
قَالَتْ: قُلْتُ: السَّاعَةَ كَانَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ.
وَقَالُوا: مَا رَأْيَنَا شَيْئاً، فَلَمَّا أَيَّسُونِي وَضَعْتُ يَدِي عَلَى أُمِّ رَأْسِي.
وَقُلْتُ: وَآ مُحَمَّدَاه! وَآ وَلَدَاه! فَأَبْكَيْتُ الْجَوَارِيَ الأَبْكَارَ لِبُكَائِي، وَضَجَّ النَّاسُ مَعِيَ بِالْبُكَاءِ فُرْقَةً لِي فَإِذَا أَنَا بِشَيْخٍ كَالفَانِي يَتَوَكَّأُ عَلَى عُكَّازٍ فَقَالَ: مَا بَالُكِ أَيَّتُهَا السَّعْدِيَّةُ تَبْكِينَ وَتَصْرُخِينَ.
قَالَتْ: قُلْتُ: فَقَدْتُ ابَنِي مُحَمَّداً -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ: لاَ تَبْكِيْنَ أَنَا أَدُلُّكِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ عِلْمَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ فَعَلَ.
قَالَتْ: قُلْتُ: فَدَتَكْ نَفْسِي وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: الصَّنَمُ الأَعْظَمُ هُبَلُ هُوَ الْعَالِمُ بِمَكَانِهِ أُدْخُلِي إِلَيْهِ فَاطْلُبِيْنَ إِلَيْهِ فَإِنْ يَشَاءُ يَرُدُّهُ رَدَّهُ.
قَالَتْ: فَزَبَرْتُ الشَّيْخَ، وَقُلْتُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ كَأَنَّكَ مَا تَرَى مَا نَزَلَ بِاللاَّتِ وَالعُزَّى فِيْ اللَّيْلَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيْهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-.
قَالَ: إِنَّكِ لَتُهْذِينَ وَلاَ تَدْرِينَ مَا تَقُوْلِينَ، أَنَا أَدْخُلُ إِلَيْهِ فَأَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكِ، قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَدَخَلَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَطَافَ بِهُبَلَ أُسْبُوعاً، وَقَبَّلَ رَأْسَهُ وَنَادَاُه: يَا سَيِّدَاه لَمْ يَزَلْ مِنْكَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنَّةٌ قَدِيمَةٌ، وَهَذِهِ السَّعْدِيَّةُ تَزْعُمُ أَنَّ ابْنَهَا قَدْ ضَلَّ فَانْكَبَّ هُبَلُ عَلَى وَجْهِهِ وَتَسَاقَطَتِ الأَصْنَامُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَنَطَقَتْ وَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّمَا(1/75)