الْحَمِيَّةُ وَعَصَبِيَّةُ الْعَرَبِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْتُ: تَرْجِعُ نِسَاءُ قَوْمِي بِرَضَاعٍ وَأَرْجِعُ خَائِبَةً، وَاللَّهِ لآخُذَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَتِيْماً، فَهَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ جَدُّهُ لَمْ أَرَ فِيْ الآدَمِيِّيْنَ أَجْمَلُ حَالاً مِنْهُ و[إِنَّهُ رُؤيَايَ الَّذِي رِئيتها فِيْ الْمَنَامِ وَتَصدقِهَا فِيْ الْيَقَظَةِ لاَ يَذْهَبُ بَاطِلاً أبَداً قالت: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَقُلْتُ: هَلُمَّ الصَّبِي فَاسْتَهَلَّ وَجْهُهُ فَرَحَاً وَقَالَ: يَا حَلِيْمَة وقد نشطت لأخذه، قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بَيْنَ يَدَيَّ يُهَرْوِلُ وَنَحْنُ خَلْفَهُ حَتَّى أَدْخَلَنِي إلى بَيْتِ آمِنَة أُمّ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ-]، قَالَتْ: فَإِذَا هِيَ امْرَأَةٌ هِلاَلِيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ، وَكَأَنَّ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَ مَعْصُوْبٌ بِأَسَارِيْرَِ جَبْهَتِهَا، فَقَالَتْ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكِ يَا حَلِيْمَةُ، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِي فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتاً فِيْهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- فَإِذَا أَنَا بِهِ مُدْرَجٌ فِيْ ثَوْبِ صُوْفٍ أَبْيَضَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ يَفُوْحُ مِنْ نَسْجِ هَذَا الصُّوْفِ الَّذِي عَلَيْهِ رِيْحٌ كرِيْحِ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ وَتَحْتَهُ حَرِيْرَةٌ خَضْرَاءُ وَهُوَ رَاقِدٌ يَغُطُّ فِيْ النَّوْمِ عَلَى حَلاَوَةِ الْقَفا.
قَالَتْ: فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ أَشْفَقْتُ عَلَيْهِ لِحُسْنِهِ وَجَمَالِهِ أَنْ أُوْقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ فَدَنَوْتُ رُوَيْداً رُوَيْداً فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى صَدْرِهِ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً وَفَتَحَ عَيْنَيْهُ يَنْظُرُ بِهِمَا إِلَيَّ فَخَرَجَ مِن الْعَيْنَيْنِ نُوْرٌ حَتَّى دَخَلَ خِلاَلَ السَّمَاءِ وأَنَا أَنْظُرُ فَبَادَرْتُ فَغَطَّيْتُ(1/66)
وَجْهَهُ بِبُرْدِي لِكَيْلاَ تَرَى أُمَّهُ ذَلِكَ وَقَبَّلْتُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَاحْتَمَلْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ ثَدْيِي الأَيْمَنَ فَشَرِبَ، قَالَتْ: فَحَوَّلْتُهُ إِلَى الأَيْسَرِ فَأَبَى أَنْ يَشْرَبَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا أَبَى لأَنَّ اللَّهَ أْلَهَمَهُ الْعَدْلَ فِيْ رَضَاعِهِ عَلِمَ أَنَّ لَهُ فِيْهِ شَرِيْكاً فَنَاصَفَهُ عَدْلاً.
قَالَتْ حَلِيْمَة: فَكَانَ ثَدْيِي الأَيْمَنُ لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- وَالأَيْسَرَ لابْنِي ضَمُرَةَ، وَكَانَ ابْنِي لاَ يَشْرَبُ أَبَداً حَتَّى يَنْظُرَ إِلَيْهِ قَدْ شَرِبَ.
فَحَمَلْتُهُ فأتيت بِهِ صَاحِبِي فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ خَرَّ سَاجِداً وَقَالَ: أَبْشِرِي يَا حَلِيْمَةُ فَمَا رَجَعَ إِلَى الْبِلاَدِ أَغْنَى مِنْكِ، قَالَتْ: فَدَعَتْنِي أُمُّهُ فَقَالَتْ: انْظُرِي فَدَتْكِ نَفْسِي لاَ تَخْرُجِي مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ أَبَداً حَتَّى تُعْلِمِيْنِي فَإِنَّ لِي وَصَايَا أُوْصِيْكِ بِهَا، قَالَتْ: فَبَاتَ مُحَمَّدٌ عِنْدِي ثَلاَثَ لَيَالٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِيْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ انْتَبَهْتُ فِيْ بَعْضِ اللَّيْلِ لأَقْضِيَ حَاجَةً وَأُصْلِحَ شَيْئاً مِنْ شَأْنِي فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ تَتَلَمَّعُ نُوْراً قَاعِداً عِنْدَ رَأْسِهِ يقبل بَيْنَ عينيه، قَالَتْ: فَأَنْبَهْتُ صَاحِبِي رُوَيْدا وَقُلْتُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى الْعَجَبِ الْعَجِيْبِ، قَالَ: اسْكُتِي وَاكْتُمِي شَأْنَكِ فَهَذِهِ لَيْلَةُ وُلِدَ هَذَا الْغُلاَمُ قَدْ أَصْبَحَتْ أَخْبَارُ الدُّنْيَا قِيَاماً عَلَى أَقْدَامِهَا، لاَيَهْنَهَا عَيْشُ النَّهَارِ وَلاَ نَوْمُ اللَّيْلِ وَمَا رَجَعَ أَحَدٌ فِيْ هَذِهِ البِلاَدِ أَغْنَى مِنْكِ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِيْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ(1/67)
وَدَّعَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَوَدَّعَتْهُ أُمُّهُ آمِنَةُ، ثُمَّ رَكِبْتُ أَتَانِي وَحَمَلْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَيْنَ يَدَيَّ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الأَتَانِ فَسَجَدَ ثَلاَثَ سَجَدَاتٍ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَتَرْفَعُ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ مَرَّتْ حَتَّى سَبَقَتْ دَوَابَ الْقَوْمِ وَرِجَالِهِمْ فَكَانَ النِّسَاءُ يَعْجَبْنَ مِنِّي، وَيُنَادُوْنِي مِنْ وَرَائِي: يَا حَلِيْمَةُ بِنْتُ ذُؤَيْبٍ، أَلَيْسَ هَذِهِ أَتَانُكِ الَّتِي رَكِبْتِيْهَا وَأَنْتِ جَائيةٌ مِنَ الْبِلاَدِ مَعَنَا فَكَانَتْ تَرْفَعُكِ طَوْراً وَتَضَعُكِ أُخْرَى؟، فَتَقُوْلُ: بَلَى إِنَّهَا لَهِيَ هِيَ؛ فَيَعْجَبْنَ مِنِّي، وَيَقُلْنَ: إِنَّ لَهَا لَشَأْنَاً عَظِيْماً، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَسْمَعُ أَتَانِي يَنْطُقُ وَيَقُوْلُ: إِيْ وَاللَّهِ إِنَّ لِي لَشَأْنَاً ثُمَّ شَأْنَاً بَعَثَنِي اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِي وَرَدَّ عَلَيَّ سِمَنِي بَعْدَ هُزَالِي، وَيْحَكُنْ يَا نِسَاءَ بَنِي سَعْدٍ إِنَّكُنَّ لَفِي غَفْلَةٍ عَنِّي أَتَدْرُوْنَ مَنْ عَلَيَّ ؟ عَلَيَّ خَاتَمُ النَّبِيِّيْنَ وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِيْنَ، وَخَيْرُ جِبِلَّةِ الأَوَّلِيْنَ وَالآخِرِيْنَ، وَحَبِيْبُ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، قَالَتْ: وَمَرَّتْ حَتَّى سَبَقَتْ دَوَابَّهُمْ وَرِحَالَهُمْ، فَلَمْ أَكُنْ أَنْزِلُ مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَعْدٍ إِلاَّ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيْهِ عُشْباً وَخَيْراً كَثِيْرًا.
فَلَمَّا صَارَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عِنْدِي ثَمَّرَ اللَّهُ لِيَ الْمَوَاشِيْ وَالأَغْنَامَ، فَلَمَّا كَانَتْ فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوْحُ وَتَغْدُو وَتدر وَتَضَعُ وَتَحْلُبُ لاَ تَضَعُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي فَجَمَعَتْ بَنُو سَعْدٍ رُعَاتُهَا فَقَالُوا: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، مَا بَالُ(1/68)
أَغْنَامِ بَنِي ذُؤَيْبٍ تَرُوْحُ وَتَغْدُو وَتُدِرّ وَتُرْضِعُ وَتَحْلُبُ، وَلاَ تَضَعُ لأَحَدٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ قَبْلَهُ إِسْرَحُوا كُلُّكُمْ وَارْعَوا فِيْ مَرَاعِي حَلِيْمَةَ وَحَيْثُ تَسْرَحُ أَغْنَامُهَا وَتَحِلُّ، قَالَتْ: فَكَانَتْ رُعَاةُ قَوْمِي يَرْعَوْنَ مَعَ غَنَمِي فَثَمَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْمَوَاشِيَ وَالأَمْوَالَ وَالأَوْلاَدَ، فَمَا زِلْنَا نَعْرِفُ الْبَرَكَاتِ مُنْذُ صَارَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- عِنْدَنَا وَفِيْ بَيْتِنَا، وَأَلْقَى اللَّهُ مَحَبَّتَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَمَالَكُ فَرَحاً فَأَكْثَرَ اللَّهُ لِيَ الْخَيْرَ حَتَّى كُنَّا نُفِيْضُ عَلَى قَوْمِنَا وَكَانُوا يَعِيْشُوْنَ فِيْ أَكْنَافِنَا.
(1/69)
فَلَمَّا كَانَ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلاَماً عَجَباً عَجِيْباً يُنَادِي: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ، قَالَتْ: فَكُنْتُ مَعَهُ فِيْ الرَّضَاعِ فِيْ كُلِّ دَعَةٍ وَسُرُورٍ، وَلاَ غَسَلْتُ لَهُ بَولاً قَطّ وَلاَ وُضُوْءَ قَط طَهَارَةٌ وَنَظَافَةٌ، إِنَّمَا كَانَ لَهُ فِيْ كُلِّ يَوْمٍ وَقْتاً وَاحِداً يَتَوَضَّأُ فِيْهِ، وَلاَ يَعُوْدُ إِلَى مَوْعِدٍ فِيْ وَقْتِهِ ذَلِكَ وَاجْتَنَبْتُ زَوْجِي جُهْدِي وَهُوَ فِيْ الرَّضَاعِ.
فَلَمَّا تَرَعْرَعَ يَخْرُجُ فَيَنْظُرُ إِلَى الصِّبْيَانِ يَلْعَبُوْنَ يَنْظُرُ إِلَى الصِّبْيَانِ فَيجِيْهِمْ، فَقَالَ لِي يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ: ((يَا أُمَّه مَالِي لاَ أَرَى إِخْوَتِي بِالنَّهَارِ))؟ قَالَتْ: قُلْتُ: فَدَتْكَ نَفْسِي يَرْعَوْنَ غَنَمًا لَنَا فَيُرَوِّحُوْنَ مِنْ لَيْلٍ إِلَى لَيْلٍ فَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ [بِالْبُكَاءِ] فَبَكَى وَقَالَ: ((يَا أُمَّه فَمَا أَصْنَعُ إِذاً هَاهُنَا وَحْدِي ابْعَثِيْنِي غَدًا مَعَهُمْ)).
قَالَتْ: قُلْتُ: وَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَتْ: فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُوْلُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ- دَهَّنْتُهُ وَكَحَّلْتُهُ وَقَمَّصْتُهُ وَعَمَدْتُ إِلَى جزْعَةٍ يَمَانِيَّةٍ وَعَلَّقْتُهَا فِيْ عُنُقِهِ مِنَ الْعَيْنِ وَأَخَذَ عَصَى، وَخَرَجَ مَعَ إِخْوَتِهِ، فَكَانَ يَخْرُجُ مَسْرُوراً وَيَرْجِعُ مَسْرُوراً.
فَلَمَّا كَانَ يَوْماً مِنَ الأَيَّامِ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ بُهْمًا لَنَا حَوْلَ بُيُوْتِنَا؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ إِذْ أَنَا بِابْنِي ضَمُرَةَ يَعْدُو وَقَدْ عَلاَهُ الْعَرَقُ وَرَشَحَ الْجَبِيْنُ، وَقَالَ: يَا أُمَّةِ يَا أَبَةِ أَدْرِكَا أَخِي مُحَمَّداً فَمَا أَرَاكُمَا تَلْحَقَاهُ إِلاَّ مَيِّتاً.
(1/70)