مَكَّةَ فَجَعَلْتُ لاَ أُمُرُّ بِشَيءٍ مِنَ الْحَشِيْشِ وَالنَّبَاتِ إِلاَّ اسْتَطَالَ إِلَيَّ فَرحاً، فَأَقَمْتُ بِذَلِكَ أَيَّاماً، ثُمَّ إِنِّي وَلَدْتُ مَوْلُوْداً لِي فِيْ بَعْضِ اللَّيَالِي وَلَمَّا ذُقْتُ شَيْئاً مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَلْتَوِي كَمَا تَلْتَوِي الْحَيَّةُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوْعِ وَالْجَهْدِ فَلاَ أَدْرِي أَجَهْدُ نَفْسِي أَشْكُو أَمْ جَهْدُ الوِلاَدَةِ فَغُشِيَ عَلَيَّ فِيْ بَعْضِ الأَحْيَانِ، حَتَّى لاَ أَدْرِي فِيْ السَّمَاءِ أَنَا أَمْ فِيْ الأَرْضِ.
فَبَيْنَا أَنَا رَاقِدَةٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ تَقُوْلُ نَائِمَةٌ أَتَانِي آتٍ فِيْ الْمَنَامِ فَحَمَلَنِي، فَقَذَفَنِي فِيْ نَهْرٍ فِيْهِ مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَذْكَى رِيْحاً مِنَ الزَّعْفَرَانِ، وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، فَقَالَ: أَكْثِرِي مِنْ شُرْبِ هَذَا الْمَاءِ لِيَكْثَرَ لَبُنِكِ وَخَيْرُكِ، قَالَتْ: فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ: ازْدَادِي؛ فَازْدَدْتُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْوَي؛ فَرَوِيْتُ، قَالَ: أَتَعْرِفِيْنِي؟ قُلْتُ: لاَ؛ قَالَ: أَنَا الْحَمْدُ الَّذِي كُنْتِ تَحْمَدِيْنَ رَبَّكِ فِيْ سَرَّائِكِ وَضَرَّائِكِ عَلَى كُلِّ أُمُوْرِكِ وَحَالاَتِكِ فَانْطَلِقِي إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ؛ فَإِنَّ لَكِ فِيْهَا رِزْقاً وَاسِعاً فَسَتَأْتِيْنَ بِالْفَوْزِ السَّاطِعِ، وْالْهِلاَلِ الْبَدْرِي؛ فَاكْتُمِي شَأْنَكِ مَا اسْتَطَعْتِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: اذْهَبِي أَدَرَّ اللَّهُ لَكِ الرِّزْقَ وَأَجْرَى لَكِ اللَّبَنَ.
قَالَتْ: فَانْتَبَهْتُ مِنَ النَّوْمِ وَأَنَا أَجْمَلُ نِسَاءَ بَنِي سَعْدٍ قَاطِبَةً لاَ أُطِيْقُ أَنْ أَقِلَ ثَدْيَيَّ كَأَنَّهُ الْجَرُّ الْعَظِيْمُ يَتَسَبَّبُ وَيَشْخُبُ مِنْهُ لَبَنٌ يَقْطُرُ كَقَطْرِ(1/61)


الرَّوَايَا، وَإِنَّ النَّاسَ حَوْلِي مِنْ رِجَالِ بَنِي سَعْدٍ وَنِسَائِهِمٍ فِيْ ضِيْقٍ مِنَ الْعَيْشِ وَجُهْدٍ مِنَ الزَّمَانِ، إِنَّمَا كُنَّا نَرَى البُطُوْنَ لاَصِقَةً بِالظُّهُوْرِ وَالأَلْوَانَ الْمُتَغِيَّرةَ، فَكُنَّا نَسْمَعُ أَنِيْنَاً مِنْ كُلِّ دَارٍكَأَنِيْنِ الْمَرْضَى مِنْ شِدَّةِ الْجَهْدِ وَالْجُوْعِ لاَ تَكَادُ الدَّمْعَةُ أَنْ تَجْرِيَ إِذَا بَكَتِ الْعُيُوْنُ مِنْ شِدَّةِ اليَبُوْسَةِ وَضِيْقِ الزَّمَانِ، لاَ تَرَى فِيْ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ شَيْئاً قَائِماً وَلاَ عَلَى الأَرْضِ شَجَراً زَاهِراً، قَالَتْ: فَكَادَتِ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ أَنْ تَهْلَكَ هَزَلاً وَضُرًّا، وَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ حَوْلِي يُعْجَبْنَ مِنِّي وَيَقُلْنَ: يَا بِنْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ إِنَّ لَكِ لَشَأْنَاً وَقِصَّةً وَقَدْ أَصْبَحْتِ الْيَوْمَ تُشْبِهِيْنَ بَنَاتَ الْمُلُوْكِ، وَلَقَدْ فَارَقْتِنَا بِالأَمْسِ فِيْ تَغْيِيْرِ اللَّوْنِ وَضِيْقٍ مِنَ الْعَيْشِ، قَالَتْ: فَكُنْتُ لاَ أُجِيْبُ جَوَاباً وَلاَ أَنْطِقُ، وَذَلِكَ أَنِّي أُمِرْتُ بِذَلِكَ فِيْ الْمَنَامِ فَكَتَمْتُ شَأْنِي.
ثُمَّ صَعَدْنَا يَوْماً إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ نَطْلُبُ النَّبَاتَ كَعَادَتِنَا، فَسَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي أَلا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةَ عَلَى نِسَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَالْجِنِّ وَالإِنْسِ أَنْ يَلِدْنَ بَتَاتاً مِنْ أَجْلِ مَوْلُوْدٍ يُوْلَدُ فِيْ قُرَيْشٍ وَهُوَ شَمْسُ النَّهَارِ وَقَمَرُ اللَّيْلِ، طُوْبَى لِثَدْيٍ أَرْضَعَتْهُ، أَلاَ فَبَادِرُوا إِلَيْهِ يَا نِسَاءَ بَنِي سَعْدٍ.
قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا نِدَاءَ الْمُنَادِي تَرَكُوا مَا كَانُوا يَطْلُبُوْنَ مِنْ مَعَايِشِهِمْ وَانْحَدَرُوْا جَمِيْعاً ذَرْوَةَ الْجَبَلِ، وَجَعَلْنُ يُخْبِرْنَ(1/62)


أَزْوَاجَهُنَّ بِمَا سَمِعُوْا، وَعَزَمُوا عَلَى الْخُرُوْجِ إِلَى مَكَّةَ، فَخَرَجُوا فَكَانُوا فِيْ جُهْدٍ شَدِيْدٍ، وَخَرَجْتُ أَنَا عَلَى أَتَانٍ لِي مُقْتَلِقٍ أَسْمَعُ لَهَا فِيْ جَوْفِهَا خَضْخَضَةٌ قَدْ بَدَا عِظَامُهَا مِنْ سُوْءِ حَالِهَا وَصَاحِبِي معِيَ.
قَالَتْ: فَجَعَلَ النَّاسُ يَجُدُّوْنَ فِيْ السَّيْرِ، فَقَالَ لِي صَاجِبِي: جِدِّي فِيْ السَّيْرِ، أَلا تَرَيْنَ النَّاسَ قَدْ سَبَقُوْنَا، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَجِدُّ فِيْ السَّيْرِ، وَأَسُوْقُ الأَتَانَ فَتَمْشِي عَلَى الْمَجْهُوْدِ مِنْهَا كَأَنَّمَا تَنْزِعُ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا مِنَ الْوَحَلِ نَزْعاً مِنْ شِدَّةِ الضُّعْفِ، قَالَتْ: فَجَعَلْتُ لاَ أَمُرُّ بِشَيءٍ إِلاَّ اسْتَطَالَ إِلَي فَرَحاً، وَنَادَتْنِي الأَشْيَاءُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ هَنِيْئاً هَنِيْئاً لَكِ يَا حَلِيْمَةُ، قَالَتْ: فَكُنْتُ لاَ أَقْدِرُ أَمُرُّ وَحْدِي لِمَا أَسْمَعُ مِنَ النِّدَاءِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْعَجَائِبُ حَوْلِي.
فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ بَرَزَ إِلَيَّ مِنَ الشّعبِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ رَجُلٌ كَالنَّخْلَةِ الْبَاسِقَةِ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ تَلُوْحُ تَلَمُّعاً مِنَ النُّوْرِ؛ِفَرَفَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَضَرَبَ بَطْنَ الْحِمَارَةِ ضَرْبَةً وَنَادَى مُرِّي يَا حَلِيْمَةُ بِكُلِّ سَلاَمَاتِكِ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بَشَارَاتِكِ مُرِّي، فَقَدْ أَمَرَنِي الرَّحْمَنُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ ادْفَعَ الْيَوْمَ عَنْكِ كُلِّ شَيْطَانٍ مُرِيْدٍ، وَجَبَّارٍ عَنِيْدٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: يَا فُلانُ، هَلْ تَرَى مَا أَرَى؟ وَتَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، فَيَقُوْلُ: لاَ، مَالَكِ كَالْخَائِفَةِ الْوَجِلَةِ، قَالَتْ: فَخِفْتُ أَنْ لاَ أَلْحَقَ مِنْ قَوْمِي أَحَداً، فَجَعَلْتُ أَسِيْرُ حَتَّى نَزَلْنَا جَمِيْعاً(1/63)


مُتَوَافِقِيْنَ كُلَّنَا عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ مَكَّةَ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ دَخَلْتُ مَكَّةَ وَقَدْ سَبَقَنِي كُلُّ نِسَاءِ بَنِي سَعْدٍ إِلَى كُلِّ رَضِيْعٍ بِمَكَّةَ فَرَجَعْتُ رَاجِعَةً، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَنْتَ رَجُلٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ أُدْخُلْ مَكَّةَ فَاسْأَلْ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ قَدْراً وَخَطَراً؟، قَالَ: آلُ مَخْزُوْمٍ، قَالَتْ: قُلْتُ لَيْسَ كَذَا اسْأَلْ سُؤَالاً أَشْفَى مِنْ هَذَا، سَلْ مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ كُلِّهِمْ قَدْراً؟ فَرُفِعَ إِلَيَّ فَقَالَ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، قَالَتْ: فَأَقْعَدْتُ صَاحِبِي فِيْ الرَّحْلِ، فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فَأَصَبْتُ نِسَاءَ قَوْمِي قَدْ سَبَقُوْنِي إِلَى كُلِّ رَضِيْعٍ فِيْ قُرَيْشٍ، قَالَتْ: فَنَدِمْتُ أَشَدَّ النَّدَامَةِ عَلَى دُخُوْلِي مَكَّةَ، فَأُصِبْتُ، وَقُلْتُ فِيْ نَفْسِي: لَوْ أَنِّي أَقَمْتُ فِيْ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ بَنِي سَعْدٍ لَكَانَ أَحْسَنَ بِحَالِي وَأَيِسْتُ عِنْدَهَا، فَجَعَلْتُ أَدْخُلُ بَيْتاً وَأَخْرُجُ مِنَ الآخَرِ، فَإِذَا نِسَاءُ قَوْمِي قَدْ سَبَقُوْنِي إِلَى كُلِّ رَضِيْعٍ فِيْ قُرَيْش.
(1/64)


فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ أَنَا بِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَجَمّتُهُ تَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الرُّضَّعِ هَلْ بَقِيَ فِيْكُنَّ أَحَدٌ، قَالَتْ: فَقَصَدْتُ قَصْدَهُ، فَقَالَتْ: أَنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُنَادِي، قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟، قَالَتْ: أَنَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، قَالَ: مَا اسْمُكِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: حَلِيْمَةٌ، فَضَحِكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، فَزَمْجَرَ وَقَالَ: بَخٍ بَخٍ سُعْدٌ وَحِلْمٌ، هَاتانِ خِلتَانِ فِيْهِمَا غِنَاءُ الدَّهْرِ وَعِزُّ الأَبَدِ، وَيْحَكِ يَا حَلِيْمَةُ إِنَّ عِنْدِي غُلاماً صَغِيْراً يَتِيْماً يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدٌ، وَإِنِّي قَدْ عَرَضَتُهُ عَلَى جَمِيْعِ نِسَاءِ بَنِي سَعْدٍ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَقْبَلْنَهُ وَيَقُلْنَ: إِنَّهُ يَتِيْمٌ، وَمَا عِنْدَ الْيَتِيْمِ مِنْ خَيْرٍ، إِنَّمَا نَلْتَمِسُ كَرَامَةَ الآبَاءِ فَهَلْ لَكِ أَنْ تُرْضِعِيْهِ لَعَلَّكِ أَنْ تَسْعَدِي بِهِ، قُلْتُ: حَتَّى أَسْتَأْمِرُ صَاحِبِي فَتَعَلَّقَ بِي فَقَالَ: بِاللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ لاَ كَارِهَةً، قَالَتْ:قُلْتُ: اللَّهِ لأَرْجِعَنَّ لاَ كَارِهَةً، فَانْطَلَقْتُ إِلَى صَاحِبِي فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَذَفَ فِيْ قَلْبِهِ فَرَحاً، وَقَالَ: وَيْحَكِ خُذِيْهِ فَإِنْ فَاتَكِ مُحَمَّدٌ لاَ تُفْلِحِيْنَ أَبَدَ الآبِدِيْنَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِيْنَ، قَالَتْ: فَأَرَدْتُ وَاللَّهِ أَلاَّ أَرْجِعَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعِيَ ابْنُ أُخْتٍ لِي فَقَالَ لِي: يَا خَالَةُ تَرْجِعُ نِسَاء بَنِي سَعْدٍ بِالرّضَاعِ وَالْكَرَمِ مِنَ الآبَاءِ وَإِنَّكِ تَرْجِعِيْنَ أَنْتِ بِيَتِيْمٍ لَئِنْ أَخَذْتِيْهِ لاَ تَزِيْدِي عَلَى نَفْسَكِ إِلاَّ جُهْداً وَضُرًّا، قَالَتْ: فَأَرَدْتُ أَلاَّ أَرْجِعَ فَأَدْرَكَتْنِي(1/65)

13 / 134
ع
En
A+
A-