ونرجح خبرنا بأن القصر في الصلاة ليس بقطع لها، وإنما قصرها هاهنا هو إتمامهم لأنفسهم وخروجهمم من ائتمام الإمام، فأما خروجهم من الصلاة قبل إتمامها فهو قطع لها وإفساد لها، لما يتخلل بين الركعتين من المشي والحرب والكلام والعمل الكثير، ولأن صلاة الخوف حملت عليها الضرورة، وهي خوف العدو وخشية فوات الوقت، ودعت الضرورة إلى خروج المؤتم من الائتمام بعد الائتمام، ولم تدع الضرورة إلى قطع الصلاة.
وذهب قوم إلى أن الطائفتين تقومان جميعاً ويكبر الإمام ويسجد وتسجد معه الطائفة الأولى والطائفة الثانية قيام يحرسونهم، فإذا سجدوا تقدمت الطائفة الأخرى وتأخرت الأولى فسجدت الطائفة الثانية والطائفة الأولى قيام يحرسونهم. واستدلوا بما روى أبويوسف (1) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى صلاة الخوف بعسفان، فصف الناس جميعاً خلفه صفين، ثم كبر صلى الله عليه وآله وسلم وكبروا جميعاً معه، ثم سجد وسجد معه الذين يلونه في الصف، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم وفعلوا مافعلوا أولا. وحكي عن أبي يوسف أنه كان يقول: إن صلاة الخوف منسوخة، وحكي أنه قال: إنها كانت خاصة للنبي صلى الله عليه.
__________
(1) ـ في (أ): أبو ثور.(1/136)


لنا: ونحن نقول إن النسخ لم يرد في كتاب ولاسنة لصلاة الخوف، ولادلالة على أنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما الخبر الذي روى أبو يوسف فهو مخالف لظاهر الآية، وذلك أن الله تعالى يقول: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك..} [النساء: 102] . وفي هذا الحديث أن الطائفتين جميعاً قامتا معه في وقت واحد، وهذا خلاف الظاهر، ثم قال تعالى: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك..} فصح أنهم لم يصلوا معه في وقت واحد، ومعنى قوله تعالى: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} يريد إذا فرغوا من الصلاة.
509 ـ خبر: وعن علي عليه السلام أنه قال في صلاة الخوف في المغرب يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة.
لنا: ولأن الطائفة الأولى لو صلوا مع الإمام ركعة وسلموا لكانوا قد خرجوا من الصلاة لغير عذر، وتركهم الآخرة لعذر وهو لأن تلحق الطائفة الثانية صلاة الإمام.
510 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن أن يرفع المؤتم رأسه قبل الإمام من الركوع والسجود.

ذهب قوم إلى أن صلاة الخوف تجوز في الحَضَر، واستدلوا /53/ بما روي عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم صلاة الخوف، وصلى بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه أربعاً وكل طائفة ركعتين، قالوا: وهذا يدل على أنه كان مقيماً.
قلنا: هذا خلاف الظاهر لقول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}، فعلق تعالى وجوبها بحصول شرطين أحدهما: السفر، والثاني: الخوف.
511 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمران بن حصين: (( صل قائماً فإن لم تستطع فجالساً فإن لم تستطع فعلى جنب توميء إيماء )) .(1/137)


وهذا يدل على أن لمسايف إذا خاف فوات الصلاة وخاف إن هو صلى قائماً وراكعاً وساجداً، أنه يصلي كيف ما أمكنه، فإن لم يمكنه ذكر الله وكبر وأومى بقدر ما يمكنه، وقول الله تعالى: {وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركباناً} يؤيد ماذكرنا.

من باب صلاة الجمعة والعيدين
512 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( فرضت عليكم الجمعة في مقامي هذا )) إلى آخر الخبر.
513 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب وهو بمكة قبل الهجرة إلى مصعب بن عمير وهو في المدينة، فأمره أن يصلي الجمعة بعد الزوال ركعتين، وبأن يخطب قبلهما، فجمع مصعب في دار سعد بن أبي خيثمة وهم اثنا عشر رجلا. وروي أنه أول من جمع.
وذهب الشافعي إلى أن الجمعة لاتجب إلا باجتماع أربعين رجلا، واستدل بما روي أن أول جمعة جمعت في المدينة أربعون رجلا. وبما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جَمَّعَ في المدينة وهم أربعون رجلا. ولا حجة للشافعي بهذين الخبرين؛ إذ لاخلاف أن الجمعة تنعقد بأربعين وبأكثر من أربعين، ونحن نرجح خبرنا بأن نقيس مادون الأربعين على الأربعين، وبقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله..} الآية، ففيه ذكر الجمع، وأقل الجمع الحقيقي ثلاثة سوى الإمام، وذهب أبو يوسف إلى أنها تجب باثنين سوى الإمام والإجماع على أن أقل الجمع الحقيقي ثلاثة بحجة القياس على حد الزنا.
514 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( الجمعة تجب على كل مسلم )) .
515 ـ خبر: وعن مالك أن سعد بن دارم أول من جَمَّع بنا في حرة بني بياضه.
516 ـ خبر: وعن ابن عباس: إن أول جمعة في الإسلام بجواثا قرية من قرى البحرين.
هذان الخبران يدلان على أن الجمعة تجب في القرى والمناهل إذا كان هناك جماعة من المسلمين مستوطنين لها ومسجد يجمع فيه.(1/138)


وذهب قوم إلى أنها لاتجب إلا في الأمصار، واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لاجمعة إلا في مِصْر جامع )). ونحن نرجح خبرنا بالآية والرواية، ونتأول خبر أصحاب أبي حنيفة بأن يكون المراد به نفي الكمال والفضل كما روي: (( لاصلاة لجار المسجد إلا في المسجد )). ويحتمل أن يكون المراد بقوله: مصر: موضع الاستيطان. وقولنا: إذا كان هنالك مسجد يجمع فيه، فلأن عادة المسلمين التي /54/ ورثها الخلف عن السلف أنهم لايجمعون إلا في المساجد، ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أقام الجمعة إلا في المساجد.
517 ـ خبر: وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى الجمعة في وقت الظهر.
518 ـ خبر: وعن أنس قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مالت الشمس. ـ يعني الجمعة ـ.
519 ـ خبر: وعن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة، ثم نرجع فنريح نواضحنا. قال جعفر وهو راوي الحديث عن أبيه ذلك عند زوال الشمس.
ذهب قوم إلى أنها تصلي قبل زوال الشمس واستدلوا بما روي: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان فَيْءٌ.
قلنا: فقد روي في بعض الأخبار: وليس للحيطان فَيء نستظل به. وهو محمول عندنا على الكثير الذي يسع المستظل ويكون المراد به أول الزوال.
520 ـ خبر: وعن جابر بن سمرة قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبتان يجلس بينهما.
521 ـ خبر: وعن جعفر، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب قائماً ثم يجلس ثم يقوم فيخطب خطبتين.
521 ـ خبر: وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يقعد ثم يقوم فيخطب.
522 ـ خبر: وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه مثله.(1/139)


لنا: دلت هذه الأخبار على أن الخطبتين واجبتان، لأن فعال النبي صلى الله عليه هذا مبين لمجمل (1)، وهو قول الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}.
523 ـ خبر: وعن جابر قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم جمعة، فقال: (( اعلموا أن الله تبارك وتعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو بحقها (2) وجحوداً لها وله إمام عادل أو جائر؛ فلا جمع الله شمله ولابارك له في أمره )) .
لنا: دل هذا الخبر على أن الإمام شرط في صحة الجمعة ووجوبها، وذهب قوم إلى أنها تجب بالإمام الجائر، واستدلوا بهذا الخبر، وعندنا أن الجائر في الباطن والظاهر ليس من شروط الجمعة ولاتنعقد به حقوق الناس، وهم أحوج إليها كالشهادة والحكم، فكيف تنعقد به الجمعة وهي من أكبر حقوق الله، ونحن نتأول قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إمام عادل أو جائر. على أن المراد به لو كان جائراً في الباطن وظاهره سليم، انعقدت به الجمعة ووجبت. قال المؤيد بالله قدس الله روحه: وليس علينا مراعاة باطن الإمام سواء كان في الباطن عادلا أو جائراً، فإمامته صحيحة والجمعة معه واجبة إذا كانت أحواله في الظاهر سليمة.
524 ـ خبر: وعن إبراهيم بن عبدالله بن الحسن عليهم السلام أنه سئل عن الجمعة هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين (ع) وكان سيد أهل البيت لايعتد بها معهم.
525 ـ خبر: وعن ابن شهاب قال: أخبرني ابن يزيد أن الأذان كان أوله حين يجلس الإمام على المنبر يوم الجمعة في عهد النببي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان في ولاية عثمان أمرنا بالأذان الثالث.
526 ـ خبر: وعن السائب /55/ بن يزيد قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة.
__________
(1) ـ في (ب): فعال النبي (ص) بيان لمجمل.
(2) ـ في (ب، د): وبحقها.(1/140)

28 / 146
ع
En
A+
A-