وعندما أحس من نفسه بالنضج، والقدرة على تحمل أعباء هذه الأمة ـ التي نذر أهل البيت دماءهم ونفائسهم في سبيلها ـ وكان عنده سابق معرفة بمواطن أنصار آل البيت في شتى البلاد، رحل ـ في موكب مؤلف من أبيه وبعض عمومته والموالي ـ إلى آمل، قال راوي الرحلة: (( ولم أسمع بأنه بلغ من تعظيم بشر لإنسان ما كان من تعظيم أبيه وعمومته له، ولم يكونوا يخاطبونه إلا بـ(الإمام)، فلما وصل آمل علا صيته، وانتشر خبره وخُبره، فأوحش ذلك ابن عمه (( محمد بن زيد ))، وكان هو الإمام في ذلك البلد، فكتب وزيره (( الحسن بن هشام )) إلى الهادي: (( بأن ما يجري يوحشُ ابن عمك ))، فردّ الهادي: (( ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلاً، فقلنا عسى الله أن يفيدهم منا )) (1)، ورحل راجعاً.
__________
(1) الإفادة 135.(1/36)
ولما اشتهر به من تلك الخلال التي تؤهله لحمل لواء الإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهوض بأعباء الخلافة ـ وبعد تمام خمس وثلاثين من عمره عمر النضج والاستواء ـ وَرَدَ عليه وفد أهل اليمن من بلاد صعدة، يستشفعون إلى أسرته في ذهابه معهم لحمل لواء الإصلاح في (( اليمن السعيد ))، وقد كانت بينهم فتن وحروب، وكانت اليمن إذ ذاك تعيش اضطراباً سياسياً رهيباً وحرباً ضروساً على السلطة، فماذا يا ترى كان يثنيه وقد طلب إليه ما كان همه وهدفه من رحلته إلى إيران من الإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير ما دافع من طمع، ولا رغبة في الغزو والاحتلال، والتسلط والسيطرة، كما كان أبو العتاهية ـ عبد الله بن بشر الروياني أحد عمال صنعاء من قبل العباسيين ـ يراسله إلى المدينة بأن يحضر اليمن ليبايعه، ويستلم الأمر منه، فوصل الإمام إلى اليمن في جماعة من أسرته ومواليه مستسهلاً الصعاب، عل الله يصلح به أمر أهل اليمن، ودخل صعدة وأصلح بين أهلها، وهمدت الفتنة، وعم الاستقرار والرخاء الاقتصادي لعموم العدل، وتنفيذ أحكام الشرع.
وبدأ الإمام المشوار مع أهل اليمن بعدما بايعوه على: كتاب الله، وسنة رسوله، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، وعلى أن يطيعوه ما أطاع الله فيهم، وإن عصاه فلا طاعة له عليهم، ويمحضوه النصح ولا يتراجعوا عن نصرته والقيام معه بالحق، وعلى أن يقدمهم عند العطاء، ويتقدمهم عند اللقاء، وأن يساوي بينه وبين الفرد منهم، كأنه يضع للخلافة الراشدة خيوطاً وخطوطاً جديدة، ليذكر الناس بتلك العهود بعدما كانت قد غابت عن دنيا الناس، وأنساهم الظالمون تلك العهود الذهبية، وذلك الماضي المشرق الوضاء، الذي ترك بصمة على جبين التاريخ، لا يزال يذكرها ولن يزال.(1/37)
وبدت له من أهل اليمن بوادر سيئة اعترضت سبيله في إقامة حكم الله تعالى، حيث شفع إليه في إسقاط بعض الحدود عن بعض الكبراء، فرحل عن اليمن مغاضباً راجعاً إلى المدينة، معتذراً بقوله: (( والله لا أكون كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه، والله ما هي إلا سيرة محمد أو النار ))، فأعاد اليمنيون الكرّة، وأرسلوا وفداً آخر يطلب عودته بعدما ذاقوا العناء السياسي والاقتصادي، (( وكانت اليمن على استعداد له، وقد دعته إليها دعوة مخلصة يمنية، وليست عراقية كالتي كانت للحسين رضي الله عنه ))، فلبى تلك الدعوة ووصل إلى صعدة في 6 صفر سنة 284هـ، ووطد لحكومة إسلامية تنشد الصلاح والإصلاح ولا تعرف التسلط والظلم والجبروت، ولا تحتجب عن رعاياها إلا من خوفهم وغدرهم، تشهد صلواتهم الخمس وتعيش آلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، فأصبح للمذهب الزيدي في ربوع اليمن الميمون دولة حكمت مئات السنين، وضع بذرتها الإمام الهادي عليه السلام، ورعاها بنوه من بعده، والحديث عن حكومته وإصلاحاته السياسية والاقتصادية والعسكرية يطول.
بويع له سنة (284هـ) وله خمس وثلاثون سنة، وكانت له مع أنصاره وأعدائه من اليمنيين الأشاوس مواقف بطولية جريئة، دلت على بسالة منقطعة النظير، وكانت شجاعته مضرب المثل وحديث الركبان.
(( وقد سار الهادي في حكم البلاد اليمنية على سنّة العدل، مما جعل الأهلين يرون فيه مظهراً لحكم الإسلام، ومصدراً لعهد الخلفاء الراشدين الأولين، وإن رسائله وخطبه وعهوده تجعل القارئ يحس بأنه يعود بالإسلام إلى عهده الأول، عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين يعتبرون الحاكم منفذ أحكام الله تعالى بحيث يحس بها الصغير والكبير والأمير والحقير )) (1).
__________
(1) أبو زهرة الإمام زيد بن علي: 515.(1/38)
وصفى حسابه مع القرامطة في اليمن، وجاهدهم بسيفه ولسانه جهاد الأبطال وأقام حكماً سياسياً واقتصادياً عادلاً، ونظاماً إدارياً وقضائياً جعله يسبق عصره، وألحقه بمصاف الراشدين، كما أسس لمذهب أصيل (( ووسع باب الاجتهاد فيه والاختيار، واجتهد اجتهاداً مطلقاً رفعه إلى مرتبة الأئمة أصحاب المذاهب ))، وقد شمر لخدمة مذهبه تخريجاً واستدلالاً أئمة المذهب الزيدي بعده في اليمن والجيل والديلم.
توفي حميداً سعيداً سنة (298هـ)، وترك آثاراً ومؤلفات رائعة.
*****
عملي في الكتاب
لنشر التراث الإسلامي عموماً أهمية عظمى في وصل الحاضر بالماضي للاستهداء به، وتراث الزيدية على وجه الخصوص لما يتمتع به من حيوية ومن معالم بارزة وشخصية ممتازة في وسطيته واعتداله وشموله واستيعابه لتراث كثير من الفرق الإسلامية، ولذلك فإنه إذا كان لكل فكر وتراث ثقافي حملته وأتباعه وأهله وأنصاره المهتمين به على وجه الخصوص فلعل تراث الزيدية الضخم مهمة كل المسلمين، وله حق على كل قادر منهم ؛ لأنه ليس تراثاً يخص الزيدية بل يشمل تراث غيرهم في الكلام والفقه؛ ولأنه لا يزال حبيس المكتبات الخاصة والعامة وفيه ثروة طائلة للمهتمين ثقافياً والباحثين.
وعندما توجهت الهمة لتحقيق ونشر هذا المجموع لما يحمله من تراث وفكر الإمام الهادي والذي سبق نشر بعض كتبه ورسائله كان جل هدفي هو إخراج النص مستقيماً للدارسين والباحثين وطلبة العلوم الدينية الذين يشدهم ويستهويهم تراث هذا الإمام الذي نشأ واعلى مذهبه، ونمت معارفهم الأولى في حضيرته وروضته. وقد لقيت عناء وعنتاً شديداً حتى تم صفه ثم لقيت عناءً آخر ربما مكرراً مرات في مقابلة رسائله على ما لدي من مخطوطات والإعتناء بنصها بالدرجة الأولى حتى صار النص بحمد الله مستقيم المعنى واضح العبارة.
وكان عملي في الكتاب على النحو الآتي:(1/39)
1ـ رتبته ترتيباً موضوعياً على حسب موضوعات العقيدة وترتيبها في كتب علم الكلام؛ لأنني عرفت من خلال اختلاف النسخ في الترتيب أنه ليس من ترتيب الإمام، ولذلك اخترت ترتيبه ترتيباً جديداً يسهل على الدارسين والباحثين، فبدأت بالكتب والرسائل التي تجمع (( الأصول الخمسة )) أو أكثرها، ثم ثنيت بالكتب والرسائل التي تتعلق بموضوع (( التوحيد ))، ثم بموضوع (( العدل ))، ثم بموضوع (( النبوة ))، وما يتعلق بها ثم موضوع (( الإمامة ))، فهذه هي الأصول التي حظيت في المجموع واختصت برسائل أو كتب أو مسائل على تفاوت في ذلك، ثم ثلثت بالرسائل التي تتعلق (( بأصول التشريع )) من القرآن أو السنة أو القياس، ثم تلاها ماله علاقة بموضوع (( الأخلاق والآداب ))، ثم تلاها أخيراً رسائل وأجوبة مسائل متفرقة، منها في موضوع المعرفة البشرية، ومنها في تفسير آي من القرآن، ومنها في بيان أحاديث من السنة، ومنها في الفقه كل ذلك تحت عنوان (( مسائل متفرقة )) علماً بأنني لم أستكمل كل تراث الإمام ومسائله؛ لأن ذلك يقتضي وقتاً وجهداً كبيرين، ولكني فتحت الباب بنشر ما نشرت من المجموع بالترتيب المذكور للمهتمين ليلحقوا ما عثروا عليه من ثراثه كلا بموضوعه، لكي يصبح سلسلة (( تراث الإمام الهادي )) أو (( الأعمال الكاملة )). ولعلي بإذن الله أتمكن لاحقاً من تحقيق تلك الأمنية لكي يصبح كل تراث الإمام في متناول الأيدي. وسأتبع هذا بترتيب كل نسخة من النسخ التي قابلت عليها ومحتوياتها.
2 ـ قابلت المجموع على ثلاث نسخ خطية عدا المطبوعتين اللتين نشرهما الدكتوران: الكاتب وعمارة غير متمحور على نسخة بعينها تكون هي الأصل ذهاباً وراء النص المستقيم، وأثبت ما اختلف من النسخ في الهامش، وما زدته جعلته بين معكوفين هكذا: [ ].
3 ـ خرجت الآيات القرآنية مثبتاً تخريجها في الأصل بين معكوفين هكذا: [ ] لئلا أثقل الهامش وأزيد في حجم الكتاب.(1/40)