ومما يجب التنبيه عليه ونحن بصدد الحديث عن فكر الإمام وانتمائه الفكري نظرة الإمام إلى (( آل البيت ))، فهو يوليهم في ثنايا مجموعه أهمية قصوى ويفتخر بالانتماء إليهم، فكراً ونسباً، فهو يحمد الله جل وعلى (( على ما من به فينا وتفضل به سبحانه علينا؛ من ولادة النبيين ووراثة علم المرسلين ))، وهم أهل الحق واتباعهم سبب النجاة والإلفة ومخالفتهم سبب الهلاك والفرقة، فقد وقع الاختلاف في هذه الأمة (( لفساد هذه الأمة وافتراقها وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمرها الله باتباعه والاقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم والسؤال لهم، وجعلوا شفاء لداء الأمة ودليلاً على كل مكرمة ونهاية لكل فاضلة، وأصلاً لكل خير وفرعاً لكل بر وفصلاً لكل خطاب ودليلاً على كل الأسباب )).
وهم ورثة الكتاب المصطفين وأهل الذكر الذين أمرت الأمة بسؤالهم في الحلال والحرام؛ (( لأنهم أهل ذلك وموضعه ومكانه ومركبه الذي ركبه الله عليه وجعله معدناً له وفيه، اختاره لعلمه وفضله على جميع خلقه، نوراً على نور وهدى على هدى وحاجزاً من كل ضلال وردى، أئمة هادين ونخبة مصطفين، لا يخاف من اتبعهم غياً ولا يخشى عماً ولا ضلالاً، محجة الإيمان وخلفاء الرحمن والسبيل إلى الجنان والحاجز عن النيران، ثقاة أبرار وسادة أخيار، أولاد النبيين وعترة المصطفين، وسلالة النبي ونسل الوصي وخيرة الواحد العلي، مشرب لا يظمأ من ورده ودواء لا يسقم من تداوى به، شفاء الأدواء ووقاية من البلاء، كهف حصين ودين رصين، وعمود الدين وأئمة المسلمين، قولهم صواب بلا خطأ وقربهم شفاء بلا ردى، أعني بذلك الطاهرين المطهرين والأئمة الهادين؛ من أهل بيت محمد المصطفى وموضع الطهر والرضى، الوافين إن وعدوا والصادقين إن نطقوا، والعادلين إن حكموا )).
وهكذا يطيل الإمام الثناء عليهم في مقطوعات أدبية رائعة من (( كتاب القياس )) وغيره ضمن المجموع.(1/31)
ويرى أنهم لا يختلفون، وذلك (( لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة فلم يحتاجوا إلى إحداث راي ولا بدعة، تكلموا بالكتاب الناطق واعتمدوا على الوحي الصادق.. فثبتت لهم بذلك الإلفة وزالت عنهم الفرقة )). ولكن هاهنا سؤالين يوردهما الإمام على نفسه بعدما ذكره من الحضّ على اتباعهم وأنهم لا يختلفون:
الأول: هل أن كل من انتسب إلى البيت النبوي يجب اتباعه أم هم طائفة مخصوصة الذين أمرنا باتباعهم؟ ويجيب الإمام (( إن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله وحضضنا على التعلم منهم وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم؛ هم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد وأباً عن أب حتى انتهوا إلى مدينة العلم وحصن الحلم، الصادق المصدق الأمين الموفق، الطاهر المطهر المطاع عند الله المقدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم )).(1/32)
السؤال الثاني: أنه من أين يقع الاختلاف بينهم؟ وإذا اختلفوا فمن هو الذي يجب اتباعه؟ ويجيب الإمام: (( إن اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيها السائل عن أخبارهم لم يقع ولا يقع أبداً إلا من وجهين: فأما أحدهما فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير قليل يرجع الناسي منهم عن نسيانه إلى قول الثابت المذكر له عند الملاقاة والمناظرة. والمعنى الثاني: فهو أكبر الأمرين وأعظمهما وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه واقتبس علمه من غير أجداده ))، (( والأصل الذي يثبت علم من اتبعه، ويبين قول من قال به ويصح قياس من قاس عليه ويجوز اقتداء من اقتدى به فهو كتاب الله تعالى المحكم وسنة رسول الله اللذان جعلا لكل قول ميزاناً ولكل نور وحق برهاناً ))، (( فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميز الناظر المميز السامع لذلك بين أقاويلهم، فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق فهو على الحق دون غيره وهو المتبع لا سواه الناطق بالصواب، المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب ))(1).
__________
(1) كتاب القياس.(1/33)
وهكذا يتجلى لنا اعتزاء الإمام وانتماؤه الفكري لآل البيت واعتزازه بذلك الانتماء كما جاء ذلك بوضوح في جوابه على أهل صنعاء حين سألوه عن فكره ورأيه وانتمائه، قال: (( لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي، ولا مجبر قدري، ولا حشوي، ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي ومن كل حروري ناصبي ومن كل معتزلي غال، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية عالية، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي ومعدن العلم وأهل الذكر، الذين بهم وُحِّد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان.. فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم، فأنا أقفوا آثارهم وأتمثل مثالهم، وأقول بقولهم وأدين بدينهم وأحتذي بفعلهم ))(1).
****
صورة مجملة من حياة الإمام الهادي عليه السلام
هذه اللمحة تخص الجاهل بحياة الإمام ومراحل تطوره إن كان هناك من يجهل حياته.
هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الحسني الهاشمي المدني، ثم الصعدي.
* ولد بالمدينة المنورة، عاصمة الرسالة الإسلامية المحمدية، وحاضرة العالم الإسلامي حينذاك سنة (245هـ) قبل وفاة جده القاسم بسنة واحدة، فحمل إليه فبرّكه وعوّذه وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن.
__________
(1) المصدر السابق.(1/34)
* عاش في تلك البيئة ـ جبل الرس على مقربة من المدينة المنورة ـ في أحضان أسرة مثالية كريمة، انتهت إليها خير خصال الهاشميين ـ وكلُّها خيِّرة ـ، وفي تلك الأسرة التي استقرت في ذلك الجبل بعد رحلات طويلة ومعاناة كبيرة فراراً بدينها من السلطان الغشوم، ومن المدنية الفاسدة، وفي رعاية شيخ تلك الأسرة، وزعيمها الروحي الوقور (( القاسم بن إبراهيم ))، الذي طوف البلدان ـ مصر، والمغرب، والشام، وغيرها من عواصم الفكر الإسلامي ـ ليستريح بعد حصيلة كبيرة من شتى صنوف وآفاق المعرفة بأفكار وطبائع الناس على أنواعهم وأجناسهم، وبعد الإعياء في طلب خلاص للأمة من معاناتها من الحكام الظالمين، لعدم وجود الناصر بعد الدعوة للتغيير، بل وبعد البيعة، ليستريح إلى ذلك الجبل، ويتفرغ لتربية أفراد أسرته المباركة، وتعليمها كل شئون حياتها، وليغذيها بتلك الحصيلة الكبرى من المعارف الإسلامية بل وغير الإسلامية، ولينشئها على جلد البادية وكرم طباعها، لتكون مهيئة من الناحيتين العلمية والجسمية لحمل الرسالة التي أخلص لها ومنحها كل حياته، وللقيام بعبء التغيير على الظلم والظالمين بجدارة كاملة.
في أحضان تلك الأسرة التي كانت تجله أشد ما يكون الإجلال نشأ وترعرع الإمام الهادي، متميزاً بالذكاء والنبوغ، وجودة الفطنة، وسلامة القريحة في تلك الأجواء النقية الصحيحة، متمتعاً بكامل الرجولة، وفضل القوة، مطلاً على العالم من هناك، غير معزول عنه رغم عزلته، كأن يد القدر تصوغه لحمل أعباء الأمة، والنهوض بها إلى مستوى الأفضل، وعرف في طفولته بكل ما تقدم من الاشتغال بالعلم، والتحلي بأنبل وأشرف الشمائل والأخلاق التي تليق بمثله ومثل أسرته، وألَّفَ وسِنُّة سبع عشرة سنة.(1/35)