أولاً: احترام العقل، فهو يولي العقل الإنساني أهمية كبرى حيث يجعله الحجة العظمى لله جل وعلى على الإنسان، والحاكم على بقية الحجج باعتبار أنها لا تفهم إلا به وفي ضوء أساسياته وأولياته، ولا يمكن أن تتناقض بقية الحجج معها، فالعقل في فكر الإمام هو الحجة الأولى التي يرجع إليها في ما اختلف فيه من ظواهر القرآن، ومحكم القرآن هو الحجة التي تعود إليها متشابهاته والسنة أيضاً، والسنة المجمع عليها هي المرجع للسنة المختلف فيها، والإمام هنا متأثر بفكر جده القاسم الرسي بوضوح.
وثانيا: تقديس القرآن الكريم وبالذات المحكمات منه، وهي في رأي الإمام التي توافق أصول العدل والتوحيد التي وصل إليها وقررها العقل، حيث نجد أن الإمام في كثير من كتبه ورسائله في هذا المجموع يتمحور حول الكتاب العزيز، فهو في جدله ونقاشه لابن الحنفية يستنطق القرآن ويوضح خطأ ابن الحنفية في فهمه لمتشابه الكتاب العزيز، وكذلك في جدله ونقاشه مع المجسمة والمشبهة في الآيات الكريمة التي يستشهدون بظواهرها، وكذلك مع المجبرة القدرية في رسالتيه الجوابيتين عليهما، فهو يفند شبههم في الكتاب العزيز ويورد الحجج والشواهد عليهم منه على طريقتي (( التحقيق )) و (( الإلزام )).
ولئن أغرق المتكلمون في تأثرهم بفلسفة اليونان وبرزت بوضوح في تراثهم الكلامي، فإن فكر الإمام الكلامي يمتاز بتمحوره حول القرآن واستنطاق حججه وتوضيح بيانه وآياته بما فيها من وضوح ويسر ومنطقية وبيان وقرب من مختلف الأذهان، وما أظنه كان يعوزه ذلك لو قصده، خصوصاً، وأن لدى جده القاسم الرسي ـ والذي كان الإمام يعظمه غاية التعظيم ويجله غاية ما يكون الإجلال، والذي يعتبر من أبرز فلاسفه أئمة الزيدية وحكمائهم ـ الكثير من معرفة ذلك كما يحكيه مجموعه العظيم، فلقد كان الإمام الهادي من أبرز ورثة فكر وثقافة جده القاسم الرسي سلام الله عليهما، وبرز اثره في شخصية وفكر الإمام.(1/26)
ومما له علاقة بالقرآن في فكر الإمام وحظِيَ بإهتمام عنده أمران مهمان في فهم القرآن:
أولاً: (( النظرة الموضوعية الشاملة )) التي تجلت جذورها في فكر وتراث الإمام، حيث كان يتعامل مع القرآن الكريم كوحدة موضوعية شاملة وبالذات في مجال العقيدة، فقد وضع الإمام بذرة (( النظرة الموضوعية )) من خلال بعض المفردات العقدية التي تتبعها في مجموعه، هذا في عصر كانت (( النظرة التجزيئية )) في القرآن هي المسيطرة والسائدة، وتجلى ذلك في بعض المفاهيم والموضوعات التي نظر إليها الإمام وتتبع مواردها في الكتاب العزيز، من مثل: (( الهدى )) و (( الضلال )) و (( الكفر )) و (( الإذن )) و (( الكتاب )) و (( العبادة )) و (( الإرادة )) و (( الشرك )) و (( القضاء )) و (( القدر )) وغيرها من المفاهيم، وبالأخص التي كانت مثار خلاف ونقاش في العقيدة.
وهذه نظرة رائعة لو نسج على منوالها المؤلفون في التفسير لأتت ثماراً طيبة في الفهم الموضوعي للكتاب الحكيم، والمسلمون في حاجة ماسة إلى مثلها، فلو أفردت بالتأليف كانت جديرة، وخصوصاً مع تطور العصر وتنوع المفاهيم التي تحتاج إلى رؤية قرآنية موضوعية في شتى المجالات، وقد لفت النظرإليها في هذا القرن العلامة محمد باقر الصدر رحمه الله في بحث رائع مستقل تناول فيه موضوعين مهمين وخرج فيهما برؤية شاملة واضحة.(1/27)
وثانياً: اللغة العربية باعتبارها الإطار الذي يفهم القرآن من خلاله، ولمعرفتها أهمية كبرى في فهم القرآن الكريم كما أن لجهلها أثراً سيئاً في فهم القرآن الكريم، ويتجلى تركيز الإمام على اللغة العربية وأسلوبها المتنوع وبالذات (( مجاز اللغة )) في جدل الإمام مع ابن الحنفية في (( مسائل ابن الحنفية )) من المجموع، وكذلك في كتاب (( المسترشد )) حيث يرى الإمام أن جهلهم للغة هو الذي جرهم إلى سوء الفهم والاعتقاد، والإمام في منهج (( التأويل )) يعول كثيراً جداً على اللغة العربية، وهو محسوب في أصحاب (( التأويل )) الذين يقابلهم أصحاب (( التسليم والتفويض )) أو بتسمية أخرى (( أصحاب الظاهر )).
***
أما مميزات (( فقه الإمام )) ومعالم شخصيته الفقهية بين مدرستي (( أهل الرأي )) و (( أهل الحديث )) الفقهيتين فإذا أردنا أن ننمي فكره إلى أي المدرستين فسنجده يقرب كثيراً من أصحاب الرأي في منهجه الفقهي، ولكنه لا يبعد في منهجه عن (( فقه أهل المدينة )) بما فيه من أثر وسنة عملية حتى على مستوى منهج التأليف، حيث يكثر في كتب فقهه في مجال الرواية من عبارة (( البلاغ )) بدل التحديث بالسند المتسلسل على نمط موطأ الإمام مالك في الأغلب.
والإمام يستشهد كثيراً في فقهه بما يأثره عن جده القاسم الرسي، وبما (( أدرك عليه مشائخ آل رسول الله )) وسمعه عنهم، وكأنه يكتفي لمعرفة ما عليه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزاء إلى القاسم الذي يراه وارث علمهم وفقههم، وهو بحق شيخ آل الرسول وفقيههم وعالمهم المتفق فيهم على جلالة قدره وعلمه.
وأصول (( فقه الإمام )) كما نص على ذلك وكما يعرفه متتبع تراثه الفقهي الثري هي: العقل، والقرآن، والمجمع عليه من سنة رسول الله، وهي ما يطلق عليها اسم (( العلل التي معرفتها غاية الاستبصار ))، وقد ذكرها محمد بن سليمان الكوفي رحمه الله في مقدمة كتاب (( المنتخب )).(1/28)
ونص عليها الإمام بقوله: (( إن الحق لا يؤخذ إلا من أحد ثلاثة وجوه: كتاب ناطق، أو إجماع من الأمة فيما نقلته عن النبي عليه السلام من السنة التي جاء بها عن الله، وأمر بينته وصححته العقول وميزت وأخرجت حقه وشرعت صدقه ))(1).
والجديد في فكر الإمام في (( أصول الفقه )) نظرته القيمة إلى (( السنة )) التي خصص لها في مجموعه رسالة مستقلة ناقش فيها معاني السنة وأقسامها، مميزاً بين ما هو منها عن الله مما هو بيان لمجمل الكتاب وتفصيل لمؤصلاته من الفرائض والشرائع والأحكام، وما هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الآداب والفضائل، موضحاً أنها لا تخالف الكتاب العزيز، وأنها وحي من الله جاء به جبريل كما جاء بالقرآن، وضرورة عرضها عليه باعتباره المقياس لصحتها.
وكذلك أيضاً نظرته إلى (( القياس ))، فقد خصه أيضاً برسالة مستقلة في هذا المجموع وضح فيها شروط القياس الصحيح مميزاً له عن القياس الفاسد في الدين الذي هو (( دين إبليس اللعين ))، كذلك مواصفات المؤهل الذي له أن يقيس ممن ليس كذلك.
والإمام صاحب مدرسة فقهية زيدية وإمام من ائمة الفقه متبوع يوازي الأئمة الأربعة شهرة وفقهاً وأتباعاً، فمدرسته الفقهية لها خصوصياتها ومعالمها وأئمتها ورجالها الذين أثروها استدلالاً وتخريجاً وتفريعاً، وأبرزهم السيدان الإمامان الهارونيان (( المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ))، وأخوه (( الناطق بالحق يحيى بن الحسين )) وخالهما (( أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ))، وهي المدرسة المعروفة بين مدارس الزيدية الفقهية بـ (( الهادوية )) نسبة إلى الإمام الهادي، وهي التي عليها الزيدية في اليمن، وهي امتداد لمدرسة جده القاسم التي كان لها أتباع في بلاد الجيل والديلم (( القاسمية ))، والتي يقابلها (( الناصرية )) نسبة إلى الإمام (( الناصر الحسن بن علي المعروف بالأطروش )) من أئمة الزيدية بالجيل والديلم.
__________
(1) كتاب القياس.(1/29)
ويمتاز فقه الإمام بأنه فقه الحاكم الذي حكم دولة كما يمتاز حكمه بأنه حكم الفقيه المجتهد، وذلك يختلف بلا شك عن الفقيه المجتهد غير الحاكم، ففقهه هو فقه الدولة الإسلامية بما فيها من إقتصاد ومعاملات، وهو فقه (( المعارضة )) أيضاً، وهو فقه (( الثورة )) والانتفاضة ضد الظلم بما فيه من حصار وتطويق لدولة الظلم، وبالذات في الجانب الاجتماعي بما فيه من حرمة معاونته والاعتزاء إليه والوظيفة معه، والجانب الاقتصادي بما فيه من تجفيف منابعه الاقتصادية على كافة الأصعدة وفي كافة الموارد، وقد تأثر في ذلك مباشرة بموقف جده القاسم بما فيه من تشدد على الظالمين، حيث جعل القاسم أحد أصوله الخمسة في بعض رسائله في مجموعة: (( أن التقلب في المكاسب والتجارات ليس من الحل في عصر الظلم كما هو في عصر الأئمة الهادين ))، وتشدده وصلابته في الدخول عليهم وأخذ عطاياهم بل وحتى مجرد أن تامنهم ويأمنوك واضح فيه وفي أسرته عموماً ومنهم الإمام، امتازت به هذه الأسرة فقهياً وعملياً عن مثيلاتها من أسر الهاشميين وفقهائهم وخصوصاً أئمة العراق.
ولذلك فإن فقه الإمام يتمتع بالحيوية، ويملك مقومات البقاء والديمومة؛ لأنه فقه المجتهد الحاكم بما فيه من فقه العلاقات ومن رؤى اقتصادية وسياسية وقضائية وعسكرية، وما أحقه بدراسة لسياسته الاقتصادية والمعاملاتية تستخرج خصائصها ومميزاتها وتستجلي ملامحها.
أهل البيت في فكر الإمام(1/30)