من ذلك ما يروى عن النبي المصطفى (السراج المنير، والحجة لرب العالمين على عباده أجمعين)(1)، عليه وآله أفضل صلاة أرحم الراحمين، من أنَّه قال: (( سيكذب عليَّ (من بعدي)(2) كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله )).
فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لا يأتي منه قول مخالف للكتاب، لأنَّه حجة لله (في كل الأسباب، ولن يخالف حجة من حجج اللّه حجة، وكذلك العقل فهو حجة لله)(3) على خلقه، لا يوضح ولا يدل إلاَّ على ما دل عليه(4)القرآن وأوضح.
فإذا فهم ما قلنا به من ذلك السائل، وقال به، من أن حجج اللّه يؤكد(5) بعضها بعضاً، ولا يبطل شيء منها شيئاً، قيل له: كيف ـ يا لك الخير ـ تريد من العقل المخلوق أن يصف لك الخالق، ويقف لك عليه بتحديد، وفي ذلك إبطال ما نطق به القرآن من التوحيد لله الواحد الحميد؟ وذلك قول الرحمن، فيما نزل من النور والفرقان، حين يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، وحين يقول سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}، والكفؤ هو المثل والنظير، في الصغير كان من الأمور أو الكبير.
وهذا كله، وما كان من القرآن مثله؛ فينفي عن اللّه التشبيه.
__________
(1) سقط من (ب) و(ط).
(2) زيادة من (ج).
(3) سقط من ب، ط.
(4) في (أ) و(ج): إلاَّ على ما دل عليه وأوضحه القرآن.
(5) في (أ) و(ج): ووقف على أن حجج اللّه يؤكد.(1/256)
فكذلك حجة اللّه من العقول في الإنسان تَنْفِيْ ما نفاه عن اللّه [المحكم من] (1) القرآن، ولو ثَبَّت لك عقلك، أو صحح لك لبك (أن ربك محدود، أو أنَّه جسم كسائر الأجسام موجود؛ لكان عقلك قد ثبت لك)(2) أن ربك كغيره من الأشياء، فتعالى عن ذلك العلي الأعلى.
ولو كان ذلك كذلك لتناقضت حجج الرحمن، في كل قول وبيان، ولو تناقضت حججه؛ لبطلت فرائضه، ولو بطلت فرائضه لبطل معنى إرساله للرسل(3)، ولو بطل معنى إرساله لرسله؛ لبطل معنى أمره ونهيه، ولو بطل معنى أمره ونهيه لبطل معنى ثوابه وعقابه، ولو بطل معنى ثوابه وعقابه لبطل معنى خلقه لدنياه وآخرته، ولو بطل معنى خلقه لدنياه وآخرته لبطل معنى خلقه لسمواته وأرضه، ولو بطل معنى خلقه لسمواته وأرضه لبطل معنى خلقه لما فيهما وبينهما من خلقه، ولو بطل معنى خلقه لما فيهما وما بينهما من خلقه لَمَا كان لِمَا أَوْجَدَ من ذلك معنى، ولو لم يكن لجميع ما أوجد من الأشياء أو بعضها معنى ثابت مفهوم، صحيح بَيَّن معلوم؛ لدخل بذلك على الحكمة الفساد، لأن الحكيم لا يفعل فعلاً إلاَّ لسبب وأمر ومعنى. ومن فعل فعلاً لغير معنى فإنما ذلك منه عبث أو جهل، ولو دخل على الحكيم ضد الحكمة لكان اسم الجهل له لازماً، ومن لزمه اسم الجهل فليس بخالق، والخالق فهو الحكيم غير الجاهل. فتعالى اللّه الرحمن الرحيم، الخلاق الحكيم، [لا إله إلاَّ هو] (4) الواحد الكريم، عما يقول فيه المبطلون، ويضيف إليه الفاسقون، ويصفه به الجاهلون.
__________
(1) زيادة من (ط)، وهامش ج.
(2) سقط من ب، ط.
(3) في (أ) و(ج): لرسله.
(4) في (أ) و(ج): إلا له الواحد الكريم.(1/257)
فلينظر من نظر في كتابنا هذا إلى ما يؤول إليه قول من قال بتناقض حجج الرحمن، واختلافها في الشرح والبيان، فإنه يؤول إلى جحدان(1) الخالق وإبطاله ودفعه له بما يُدْخل عليه من الجهل في خلق ما يخلق، إذ خلق ـ بزعم من جهل وفسق ـ لغير معنى؛ ـ وقد نعلم أن من فعل فعلاً لغير سبب ولا معنى فإنما عَبثَ واستْهزَأ، وضاد الحكمة فيما به أتى، والله سبحانه فمخالف لذلك، متعال سبحانه عن الكينونة كذلك.
فقد بان، بحمدالله، لكل ذي عقل وعرفان، وفهم وتمييز وتبيان(2)، أن من قال بتناقض حجج الرحمن غير عارف(3) به ولا مقر، ومن لم يعرف اللّه جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فلم يعبده، ومن لم يعبده فقد عبد غيره، ومن عبد غيره فهو من الكافرين، ومن كان من الكافرين فقد خرج ـ بحمد الله ـ من حد المؤمنين. فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله الزيادة في الرحمة والهدى، وحسبنا اللّه (ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي الكبير. والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على سيد المرسلين، محمد وأهل بيته الطيبين.
__________
(1) في (ج): جحد الخالق.
(2) في (ج): وبيان.
(3) في (أ) و(ج): أمر من قال بتناقض حجج الله أنَّه غير عارف...إلخ.(1/258)
كتاب تفسير الكرسي(1)
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحيسن صلوات الله عليه:
أما بعد فإني أحمد إليك(2) الله الذي لا إله إلاَّ هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وعلى أهل بيته، وأن يجعلك من أهل ولايته، وَيَحْبُوك بحفظه وكلاءته.
ثم إني سأذكر لك نبأ أهل الزيغ من المشبهة عليها لعنة الله، وأقص عليك سبيل ضلالها عن الهدى، ومن حيث ضلت وعميت.
واعلم رحمك الله أن فريقاً من المشبهة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى عهد علي رحمة الله عليه، وقد ذكر الله عزَّ وجل هؤلاء الذين كانوا على عهد نبيه صلى الله عليه وعلى آله في آي الكتاب الذي نزله، فقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً}[الأسراء:90 ـ92] وفيهم يقول سبحانه: { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَينَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِم وَعَتَوا عُتُوّاً كَبِيراً. يَوْمَ يَرَونَ الْمَلاَئِكَةَ لاَبُشْرَى يَومَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 21 ـ 23]. فعاب تبارك وتعالى كفرهم في اعتقادهم التشبيه في الله عزَّ وجل، وجعل مصيرهم إلى النار بذلك. وكذلك هؤلاء الملحدون أيضاً، فهم على ذلك السبيل، وبه يعتقدون، وعنهم وعن أشياعهم نقلوا هذه الروايات.
فقالت فرقة منهم: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم صلى الله عليه على خلق نفسه، وأنه يضحك حتى تبدو نواجذه.
وقالت فرقة: بل هو نور من الأنوار، يكل عنه النظر، ولا ينفذه البصر. وزعموا في زعمهم أن لله عرشاً مشتملاً عليه، وأن النبي صلى الله عليه وآله: أسري به إلى السماء ووصل إلى الله عزَّ وجل، ووجد برد أنامله في جسده، وأنه سَمِعَ اللهَ سبحانه وهو يقول: كن فيكون.
وقالت فرقة: إن الله تعالى ذكره يظهر يوم القيامة ويرى عياناً، وأنه يكون يوم القيامة جالساً على العرش، ورجلاه على العرش، وأنه يكشف لهم ساقه، ويحتجب عن الكفار فلا يرونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الرسالة ليست في (أ).
(2) ليست في (أ).(1/259)
فصغروا الله سبحانه وجل ثناؤه غاية التصغير، وجهلوا قول الله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] وغيرها.
فنقول لهم: أيها القوم إنكم جهلتم الله سبحانه فلم تعرفوه، وأشركتم بالله عز وجل فلم توحدوه. والله سبحانه فقد وصف نفسه بغير ما وصفتموه، ونفى عن نفسه ما نسبتم إليه.
فاسمعوا إلى قولنا، وأنصفوا من أنفسكم، واقبلوا الحق إذا عرفتموه، ولا يفتننكم الشيطان ليخرجكم من أديانكم، فإن الله سبحانه يقول: {وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}[الفرقان: 29].
فمما نذكر لكم، ونحتج به عليكم، ما ذكره(1) الله سبحانه في هذه الآية من قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة: 255]، فأخبر الله سبحانه أن كرسيه قد وسع السموات والأرض، يريد عزَّ وجل: أن هذا الكرسي قد اشتمل على السموات السبع فأحاط بأقطارها، وكذلك اشتمل على الأرضين السفلى فأحاط بأقطارها أيضاً، فصار الكرسي مشتملاً على السموات السبع، عالياً فوقها، واسعاً لها، والواسع للشيء هو: الذي انبسط فوقه، حتى اشتمل عليه، فكانت السموات والأرض أضيق من الكرسي، وكان الكرسي أوسع منهما.
__________
(1) في (أ) و(ج): ما ذكر.(1/260)