قيل له: تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً، لا نعتقد شيئاً من ذلك، وليس ربنا سبحانه كذلك، لأن الجسم محدود مُبَعَّضٌ(1)، والله فليس كذلك، والعرض فلا قوام له إلاَّ بغيره، والله فهو المقيم لكل شيء، والذي لا يحتاج إلى معونة شيء، فلذلك قلنا: إن ربنا على خلاف قولك.
فإن قال: أفنوراً تعبدون؟ أم ظلمةً هو تقولون؟ أم غير ذلك مما يعقل تذكرون؟ وإلا فما أراكم تعبدون شيئاً عليه تقفون؟ ولا تدعونني إلى عبادة شيء أعرفه(2)؟ ولا إلى الإقرار بإله يقف(3) عقلي وفهمي(4) على صفته، فكيف أعبد ما لا أعرف؟، أو أتَعَبَّدُ لما لست عليه أقف؟ وإنما لا يجب علي أن أقر به، فضلاً عن أن أعبده. وإنما يجب عليَّ أن أعبد إلهاً عرفته فلم أنكره، ووقَعَتْ عليه حواسي فلم أَدْفعَه، فأما ما لم أقف(5) عليه بعقلي، ولم أعرفه بشيء من حواسي، فكيف يكون عندي ثابتاً، فضلاً عن أن يكون واحداً فاعلاً(6)؟! والوحدانية فإنما تكون عندي، وتثبت في قلبي؛ لما عرفته بصفاته، وحددته(7) بذاته، فحينئذٍ أقف على وحدانيته، فأما ما لم أقف له على تحديد ولم أعرفه بكون ذاته، فكيف أُوَحِّده، بل كيف أعبده؟ أوجدوني(8) بقولكم حجة وتبياناً، وأظهروا لي بذلك حقاً وسلطاناً.
__________
(1) يعني مجزَّأ.
(2) في ط: لا أعرفه. وفي هامشه: غير موجودة في الأصل. والصواب حذفها. والمعنى: ولا أراكم تدعونني إلى عبادة شيء معروف، بل إلى عبادة ما لاأعرفه ولا أقف عليه.
(3) في ط: لا يقف. وفي هامشه: غير موجودة في الأصل، والصواب حذفها.
(4) في ط: ووهمي.
(5) في ج: يقف عليه عقلي.
(6) في ب: يكون رباً فاعلاً. وفي (ط): واحداً قادراً فاعلاً.
(7) في ط: ب: ووجدته.
(8) بمعنى: اجعلوني واجداً حجة. وفي ط: أوجدوا لي.(1/251)
قيل له: لعجز حواسك وعقلك عن دَرْك(1) معبودك جل جلاله بالتحديد، صح له سبحانه ما أنكرت من التوحيد، لأن حواسك وعقلك أدوات مجعولات، مركبات على درك المخلوقات مثلهن، المصورات بالخلق كتصويرهن، فأما ما لم يكن لهنَّ مشابهاً، ولا لمعانيهن مُشَاكِلاً، وكان عن ذلك متعالياً، ولم يكن له حد ينال، ولا شبه تضرب له به الأمثال؛ فلا يدرك جل جلاله بهن، ولا تدرك معرفته بشيء منهن، ولا يستدل عليه إلاَّ بما دل به على نفسه، من أنَّه هو، وأنه القائم بذاته.
فلما صح عند ذوي العقول والتبيان، وثبت عند(2) كل ذي فهم وبيان، أن الحواس المخلوقة، والألباب المجعولة؛ لا تقع إلاَّ على مثلها، ولا تلحق إلاَّ بشكلها، ولا تَحُدُّ إلاَّ نظيرها، صحت له سبحانه ـ لَمَّا عجزت عن درك تحديده ـ الوحدانية، وثبتت للممتنع عليها من ذلك(3) الربوبية، لأنَّه مخالف لها في كل معانيها، وبائن عنها في كل أسبابها. ولو شاكلها في سبب من الأسباب؛ لوقع عليه ما يقع عليها من درك الألباب.
__________
(1) يعني إدراكه.
(2) في ج: في عقل كل ذي.
(3) يعني من الإدراك بالحواس.(1/252)
فلما تباينت ذاته وذاتها، فكانت هي فعله وكان هو فاعلها؛ بانت بأحق الحقائق صفاته وصفاتها، فكان دَرْك الأفهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد، والانحدار منها والتصعيد، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله، وما أظهر من آياته، ودل به على نفسه من دلالاته، من خلق أرضه وسمواته، وما ابتدع بينهما من خلقه، فكان الدرك بالصنع والأفعال للصانع الفاعل؛ كالدرك بالعيان سواء سواء عند كل ذي فهم عاقل، فكان درك الحواس لما شاكلها وما كان مثلها في التحديد والعيان(1)، وكان دركها لما باينها فلم يشاكلها(2)، وكان على خلاف ما هي عليه من تقديرها وتصويرها متقدساً عن مشاكلتها، بما تدركه من أفعاله، وتقف عليه من آياته في أنفسها دون غيرها، ثم في غيرها من بعدها.
فلما أن وَجَدت العقولُ والحواسُّ أجساماً مثلها، مصوراتٍ في الخلق كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلاَّ بغيرها؛ استدلت على الفاعل بفعله، ووقفت على معرفة الخالق بخلقه، كما يُعرف كل ذي عمل بعمله، ويُستدل على كل صانع بفعله، لأنك متى وقفت على جدار مبني علمت أن له فاعلاً بانياً، وكذلك إذا وقفت على ثوب معمول؛ علمت أن له عاملاً غير مجهول، وكذلك لو سمِعَتْ حاسةُ السمع(3) صوتاً؛ لعلم السامع أنَّ له مصَوِّتاً منه كان، ومن بعد خروجه من حلقه بَانَ لسامعه، ووضح علمه لعالمه(4).
__________
(1) كذا في النسخ، ولعل الصواب: بالعيان، أو: بالتحديد والعيان. ويكون متعلقاً بـ(درك).
(2) في ج، ب: يشابهها.
(3) في ب: حاسة الأذن.
(4) في ب، ط: لعامله.(1/253)
وكذلك لما رأَتْ حاسةُ البصر الآياتِ المجعولات، وما فطر اللّه من الأرضين والسموات؛ علم ذو الحاسة بعقله وتمييزه أن لذلك مدبراً جاعلاً، وخالقاً محدثاً فاعلاً، ليس لشيء من خلقه مشابهاً ولا مُشاكِلاً، لأن كل ما يدرك بالتحديد والتبعيض والعيان من الأشياء لاتخلو من أن يكون غيرها جعلها، أو هي جعلت أنفسها، فلما أن كان ذلك كذلك؛ نظرنا في خلقها لأنفسها فاستحال عندنا، وامتنعت من قبوله عقولنا، لأنها كانت من قبل الجعل عدماً، والعدم فلا يَجْعَل موجوداً، ولا يخلق جسماً، لأنه ليس بشيء، وما لم يكُنْ بشيء فلا يفعل أبداً شيئاً، فضلاً عن أن يخلق جسماً.
فلما أن بطل ـ لما ذكرنا ـ أن تكون جعلت أنفسها، ثبت أن الجاعل لها غيرها، المصور المقدر لخلقها (فلما أن ثبت أن فاعلها غيرها؛ ثبت أنه بخلافها)(1)، وأنه مباين في كل الأمور لها، غير مشاكل لشيء منها.
فلما أن صح بُعْدُه عن مُشَاكلتها؛ صح عجز المجعولات عن درك جاعلها، وثبت انحسارها عن تحديد خالقها، فلما أن صح عجزها عن دركه، وثبت انحسارها عن تحديد خالقها؛ ثبت بذلك له أيها السائل ما أنكرت من معرفته سبحانه.
فلما ثبتت لك معرفته؛ صحت لك بلا شك وحدانيته، ولما صحت له الوحدانية؛ وجبت له جل جلاله الربوبية. فافهم ما عنه سألت، وانظر فيه إذا نظرت بِلُبٍّ حاضر، ورأي وارد صادر، يَبِن لك في ذلك الصواب، وينكشف لك عنه الحجاب، إن شاء الله، والقوة بالله وله.
[حجج العقل والنقل ـ هل تتضاد؟]
__________
(1) سقط من (ط).(1/254)
ومن الحجة أيضاً في ذلك، ولمن قال ذلك، أن يقال له(1): أخبرنا عن العقل الذي (تريد بزعمك) (2) أن تقف به على معرفة ربك، أَحُجة هو لله فيك، أم ليس هو بحجة له عليك؟ فلا يجد بداً من أن يقول هو حجة لله فيَّ، ركبها سبحانه للاحتجاج بها علي، فإذا قال ذلك، وكان الأمر عنده فيه كذلك؛ قيل له: أو ليس كذلك القرآن، هو حجة عليك وعلى غيرك من الرحمن؟
فإذا قال: نعم، كذلك أقول، وإلى ذلك اعتقادي يؤول. قيل له: فهل يجوز أن تتضَادَّ حجج اللّه وتختلف، وتتباعد في المعاني فلا تأتلف؛ فتدل إحداهن على معنى، وتبطله وتنكره الأخرى؛ فكلما أثبتت حجة العقل لله حجة على العباد أنكرتها ودفعتها وخالفتها وأبطلتها حجة اللّه في الكتاب(3)، وكلما أثبتت حجة اللّه في القرآن شيئاً، دفعته حجة العقول دفعاً؟
فإن قال: نعم، يكون ذلك ويوجد، استُغني عن مناظرته بجهله، واستدل بذلك على كفره، وخالف الخلق أجمعين، وقال بما لم يقل به أحد من العالمين، وافتضح عند نفسه فضلاً عن غيره؛ لأنَّه يزعم أن حجج اللّه تتناقض وتتضاد، وما تناقض وتَضَادَّ فليس بحجة لله على العباد.
وإن رجع إلى الحق، وتعلق من القول بالصدق؛ فقال: لا يجوز ذلك، ولا يكون أبداً كذلك، لأن حجج اللّه على الخلق يؤكد بعضها بعضاً، ويشهد ناطقها من القرآن؛ لمُسْتَجِنِّ مُرَكَّبِها في الإنسان؛ ويشهد عقل الإنسان لنواطق حجج القرآن، وكذلك ما نطق به الرسول يشهد له القرآن والعقول.
__________
(1) في (ج): ومن الحجة في ذلك أيضاً أن يقال لمن قال ذلك: أخبرنا.
(2) في هامش (ط): مطموستان في ب.
(3) في (ج): القرآن.(1/255)