ومثل هذا كثيرغير قليل، فيما أنزل الله من واضح التنزيل، من دلالة(1) أنبيائه عليه، وذكرهم له بما نسبوا من فعله إليه. من ذلك قول (هود) صلى الله عليه، لمن أرسل من الخلق إليه؛ حين يقول: {وَاتَّقُوا الَّذِيْ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍٍ وَبَنِيْنَ وَجَنَّاتٍ وَعُيْونٍ}[الشعراء: 132، 134]. ومن ذلك قول (شعيب) صلى الله عليه لأصحاب الأيكة المخسرين، فيما أمرهم به من طاعة رب العالمين: {واتَّقُوا الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةِ الأَوَّلِيْنَ}[الشعراء: 184]، ومن ذلك قول إبراهيم، المطهر الكريم؛ لعبدة الأصنام، الشاكين في الله الطغام؛ حين يقول صلى الله عليه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌ لِيْ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ الَّذِيْ خَلَقَنِيْ فَهُوَ يَهْدَيْنِ وَالَّذِيْ هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيْنِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِيْنِ وَالَّذِيْ يُمِيْتَنِيْ ثُمَّ يُحْيِيْنِ وَالَّذِيْ أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِيْ خَطِيْئَتِي يَوْمَ الدَّيْنِ رَبِّ هَبْ لِيْ حُكْماً وَأَلْحِقْنِيْ بِالصَّالِحِيْنَ وَاجْعَلْ لِيْ لِسَانَ صِدْقٍ فِيْ الآخِرِيْنَ وَاجْعَلْنِيْ مِنَ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيْمِ}[الشعراء: 75، 85].
__________
(1) في (ب): أدلة، كذا وهو غلط.(1/246)


ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه، ودلالته إياهم على ربهم وربه عز وجل حين يقول: {بَلْ رُبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِيْ فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِيْنَ}[الأنبياء: 56]. فكل الأنبياء عليهم السلام، يدل على ربه ذي الجلال والإكرام بآياته وبفعله(1)، وما ذرأ وأوجد من خلقه، لا بتبعيض ولا بتصوير ولا تحديد، ولا بمشابهة لما خلق من العبيد. فسبحان من ليس له شبيه(2) ولا عديل، ولا ضد ولا مثيل، وهو الفرد الصمد الجليل، الذي كينونته في السموات العلى، ككينونته في الأرض السابعة السفلى، الذي لا تراه العيون الناظرة، ولا تدركه(3) الأوهام الخاطرة؛ في الدنيا ولا في الآخرة، النافذ قضاؤه، والعزيز أولياؤه، والذليل أعداؤه، المرضي لمن أرضاه، المعذب لمن عصاه، الداعي إلى دار السلام(4)، المبتدئ بالفضل(5) والإنعام، مبتدئ(6) الأحياء، وباعث الموتى، وجامع الخلق ليوم لا ريب فيه، المتكفل بالكفاية لمن توكل عليه، المتولي الموفق الهادي(7) لمن انقطع إليه، كذلك(8) الله أكرم الأكرمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
باب تفسير قول الله سبحانه {وَاللهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ}
والرد على من قال من أهل الإلحاد إنه يبصر بعين كأعين العباد
إن سأل سائل مسترشد عن ذلك، أو تعنت متعنت ضال هالك. قيل له: إن معنى (بصير) يخرج على معنيين، بينين عند أهل العلم نيرين:
__________
(1) في (ج): وأفعاله.
(2) في (ج): شبه.
(3) في (أ): تتوهمه.
(4) في (ب): دار الإسلام.
(5) في (ب): بالفضائل.
(6) في (أ) و(ج): مبيد.
(7) سقط: الهادي، من (ب).
(8) في (أ): ذلك.(1/247)


فأما أحدهما فهو: (العالم) بالأشياء طرّاً(1)، من ذلك قول العرب: فلان بصير بالفقه والنَّحو والحساب، بصير بالشعر والكلام في كل الأسباب، تريد أنه به عالم، وبه في كل حال قائم. فعلى ذلك يخرج قول الرحمن ذي الأياد، حين يقول: {وَاللهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ}،(2) يريد عالم بهم، محيط بكل أمرهم، مطلع على خفي سرهم.
والمعنى الآخر، فهو: (البصر والنظر بالعين)(3)، والله عن ذلك فبريء، وعنه متعال علي؛ إذ ذلك ومن كان كذلك مشابه للمخلوقين، وقد نفى ذلك عن نفسه رب العالمين، حين يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]. ولو كان كما يقول من كفر بكتابه، وجحد بآياته(4)؛ لكان مشبهاً لكل ما نراه ونجده، ونحيط به ونعلمه، من المبصرين بالأعين من المربوبين، ولو كان ذلك كما يقولون؛ لبطل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ولو بطل من الكتاب شيء يسير؛ لبطل منه الجليل الكثير، ولو بطل بعضه لأشبه الباطل كله؛ بل يؤكد(5) بعضه بعضاً، فلن يبطل منه حرف أبداً، وكيف يبطل أو يتناقض ما أحكمه ذو الجلال والسلطان، وحفظه من كل سوء الرحمن؟! ألا تسمع كيف يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدِيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ}[فصلت: 42]، ويقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21 ـ 22]، فكيف يتناقض أو يبطل ما حفظه الواحد الكريم، وحاطه من كل باطل أو دنس ذميم، ومنَعَهُ وحجره عن الشيطان الرجيم؟ كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وجاروا عن قصد الحق جوراً شديداً.
تم كتاب المسترشد من أوله إلى آخره، إلا أنه على(6) التقديم والتأخير، بحمد الله ومنّه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الأخيار وسلم(7).
__________
(1) في هامش (ج): طرّاً الذي لا تخفى عليه نية ولا نجوى.
(2) في الأصل: البصير بالعين.
(3) في (ب): البصر بالعين والنظر.
(4) في (أ): آياته.
(5) في (أ): مؤكدٌ.
(6) في (أ): وهو على.
(7) في (أ): وصلواته على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/248)


كتاب الرد على أهل الزيغ من المشبهين(1)
m
قال الإمام يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
[ماذا نعبد ؟]
إن سأل مسترشد سائل(2) أو قال متعنت قائل (أو ملحد)(3): ماذا يعبد الخلق؟
قيل له: يعبدون الخالق الذي فطرهم وصورهم، وابتدعهم وأوجدهم.
فإن قال: وأين معبودهم؟ أفي الأرض أم في السماء؟ أم فيما بينهما من الأشياء؟
__________
(1) في (أ) و(ج): باب الرد ...إلخ.
(2) في هامش ط: في ب تقديم وتأخير يجعل العبارة: سائل مسترشد. وكذلك في ب.
(3) في هامش ط: غير موجودة في أ.(1/249)


قيل له: بل هو فيهما وفيما بينهما، وفوق السماء السابعة العليا، ومن وراء الأرض(1) السابعة السفلى، لا تحيط به أقطار السموات والأرضين، وهو المحيط بهن وبما فيهن من المخلوقين، فكينونته فيهن ككينونته في غيرهن، مما فوقهن وتحتهن، (وكينونته فيما فوقهن وتحتهن)(2)، ككينونته قبل إيجاد ما أوجد من سمواته وأرضه، فهو الأول الموجود من قبل كل موجود، المكوِّن غير مكوَّن، والخالق غير مخلوق، والقديم الأزلي(3) الذي لا غاية له ولا نهاية، الذي لم يحدث بعد عدم، ولم يكن لأزليته غاية في القدم(4)، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، المتقدس عن القضاء بالفساد، صادق(5) الوعد والوعيد، المحتج بالبراهين النيرة على العبيد، الداني في علوه، والعالي في دنوه، خالق السموات والأرضين، وهو الموجد لأولهن، والمبيد آخراً لما أوجد منهن، والمبدل بهن في يوم الدين غيرهن.
فإن قال: فما معنى كينونته فيهن وفي غيرهن مما بينهن؟ ألعِظَم جسم أحاط بهن وكان كذلك فيهن؟ أم لسرعة تحَوُّل و انتقال منهن إلى غيرهن، ومن غيرهن إليهن؟
قيل له: ليس إلهنا سبحانه كذلك، ولا يقال فيه بذلك، وهو سبحانه متعال عن الانتقال، متقدس عن الزوال، وعن التصور في صور الأجسام، تعالى عن ذلك ذو الجلال والإكرام.
ولكن معنى قولنا: إنَّه فيهن، هو أنَّه مدبر لهن، قاهر لكل ما فيهن، مالك لأمرهن، ولأمر(6) ما بينهن، وما تحتهن وما فوقهن، لا أنَّه مستجن بهن(7)، ولا داخل ـ كدخول الأشياء ـ فيهن.
فإن قال السائل المتعنت: فما هو في ذاته عندكم؟ ـ إذا(8) كان كذلك في قولكم، وما تعتقدون في دينكم ـ أجسم هو أم عرض؟
__________
(1) في (ج) و (ب): ومن وراء الأرضين. وما هنا في هامش (ج).
(2) سقط من ط مابين القوسين.
(3) في ج: الأول.
(4) في ط: العدم.
(5) في ب، ط: الصادق.
(6) سقط من ط.
(7) في ط: لأنه مسخر لهن. ولعله تصحيف.
(8) في ج: إذ.(1/250)

50 / 209
ع
En
A+
A-