وقوله لإبراهيم صلى الله عليه: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِيْنَ}، وعلى هذا النحو قال تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكُ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يعني الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين... ثم قال: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} فقد نزع الملك من الفراعنة والجبابرة وإنما الملك هو الأمر والنهي لا سعة المال، ثم قال: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين، وذلك قوله سبحانه: {فَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ}، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئاً، فسماه الله عزيزاً؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العز أبد الأبد، ثم قال: {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين؛ لأنهم معتدون غير محقين، فكل من كان في يده أمر ونهي وكان فعله مخالفاً للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين ))(1).
ـ ورابعاً: أن المستحق للإمامة وولي الأمر والنهي في الأمة من حاز شروطاً هي: (( ولادة الرسول، والعلم، والورع، والزهد، والدعاء إلى الله، وتجريد السيوف، وخوض الحتوف، وفض الصفوف، ومجاهدة الألوف، ورفع الرايات، ومباينة الظالمين، وإقامة الحدود على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها وردها في سبلها التي جعلها الله لها وفيها، مع الرحمة والرأفة بالمؤمنين، والشدة والغلظة على الفاسقين والشجاعة عند البأس، والمجاهدة للكافرين والمنافقين ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) جواب مسألة النبوة والإمامة.(1/21)


والسؤال الذي يتوجه بإلحاح. أين موقع الإمام الهادي من هذه الشروط والمواصفات، وهل كان انعكاساً لها ومصداقاً؟ أم أن مثل هذه النظرية لا وجود لها إلا في عالم المثال وعند الحالمين؟ والحق الذي تقودنا إليه الشواهد المتعددة من صفات الإمام الخَلقية والخُلقية وسيرته التي استفاضت عند أوليائه وغير اوليائه أنه كان تجسيداً لتلك النظرية التي بلورها عن الحاكم العادل الرشيد، وهذه شهادة نسجلها للتاريخ بدافع الإنصاف ومعنا ثلة من المستبصرين الذين اتبعوه على بصيرة من أمره وأمرهم من أبناء اليمن الأشاوس وممن هاجر إليه ـ لشهرة أمره ـ من الحجازيين والعراقيين والطبريين طلباً لنصرته والشهادة بين يديه.
ولنكتف بثلاثة من أصحابه لنرى شدة حبهم له وبصيرتهم في اختباره، وليكونوا أنموذجاً لمن وراءهم من أصحابهم وإخوانهم، ولنرى كيف تركهم وقناعتهم في امره.
فأولهم وأولاهم: العلامة الفقيه الحافظ المسند قاضي قضاة الإمام قاضي صعدة علامة الشيعة محمد بن سليمان الكوفي جامع المنتخب فهو مع علمه وبصيرته يصف كيف وصلت دعوة الإمام إلى الكوفة، ويقيم الأدلة والبراهين على إمامته وجمعه للشروط ووجوب نصرته وطاعته في مقدمة كتاب المنتخب فعل ذي البصيرة والهمة العالية والنفس الأبية الغيورة على ما أصاب الأمة وحل بها من ظلم وعسف واستبداد، يرجع إليها من أرادها.
وثانيهم: العلامة الفارس النبيل علي بن محمد بن عبيد الله العلوي العباسي المدني، مصنف سيرة الإمام وأحد خلص أصحابه فقد احتج على إمامة الإمام الهادي في مقدمة السيرة بحجج وشواهد بينة.
وثالثهم: العلامة الحسين بن عبد الله الطبري أحد المهاجرين المستبصرين إلى الإمام، والذي يتساءل بكل شجاعة وبصيرة معبراً عن نفسه وعن غيره (( عن المعنى الذي وجبت به لنا على الخلق الطاعة، ووجب به علينا جهاد من أبدى لنا المعصية، وثبتت به لله سبحانه في ذلك علينا الحجة )).(1/22)


فأجابه الإمام بكل ثقة وطمأنينة وبحجة واضحة: (( وهذا كرمك الله فقد وجب لنا على أنفسنا السؤال عنه والبحث لها فيه عندما دعتنا إليه من دعاء الخلق إلى طاعتنا والمناداة إلى إجابتنا.. فكان من جوابها لنا عندما احتجنا إليه من علم ذلك منها أن قالت: وجب لي ذلك بما وجب للأئمة من قبلي من لدن القاسم بن إبراهيم عليه السلام ومن تقدمه من الأئمة القائمين الذين كانوا حججاً لله على العالمين سواء سواء )).
ثم ذكرا لشرائط التي بها تجب للإمام الإمامة كما ذكرنا آنفاً إلى أن قال: (( فلما أن أجمعنا نحن وهي على أن من كانت فيه هذه الخصال، وثبت له ما ذكرنا في كل حال فقد وجبت له بحكم الله الإمامة، وتأكدت له بفرض الله على الخلق الطاعة؛ أوجبنا على أنفسنا المحنة فامتحناها فيما أجمعنا نحن وهي وغيرنا عليه من الشروط التي تجب بها الإمامة، وتثبت بها لأهلها على الخلق الطاعة، فلم نجدها ولله الحمد عن ذلك منصرفة ولا منه معوزة.. ولك يا أبا عبد الله أكرمك الله علينا من الحجة والسؤال والمحنة مثل الذي كان لنا على أنفسنا، فانظر في ذلك معنا بمثل ما نظرنا نحن به مع أنفسنا، فإن وجدت ما وجدنا وشهد عقلك لك في أمرنا بمثل ما شهدت به عقولنا لأنفسنا؛ فقد حق لك ما طلبت، وصح لك ما عنه سألت، وجاءتك من نفسك البينات، وأنارت لك في ذلك النيرات، وإن لم تجد الشروط التي نشهد نحن وأنت وكل المسلمين بأنها شروط الأئمة الهادين المفترضة طاعتهم والمحرمة معصيتهم؛ كنت على بينة من أمرك ورخصة في فرضك وراحة من تعبك، واعلم ـ هداك الله ـ أن الإمتحان والنظر لا يكون إلا بالنصفة من المتناظرين، وطلب الحق في ذلك من المتسائلين، وقبول الحق عند ظهوره، وأخذه بأفضل قبوله، ونحن ـ أكرمك الله ـ لكل ذلك وإليه لك مسرعون وله منك محبون ))(1).
__________
(1) جواب مسائل الطبري.(1/23)


هذا غير شهادة أعلام أسرته على رأسهم الإمام القاسم الرسي وولده محمد بن القاسم وبقية الأسرة الكريمة الذين لم يكونوا يخاطبونه إلا بالإمام، وغير شهادة السير والتواريخ اليمنية للقدماء والمحدثين من موالين وغير موالين.
وبالجملة فحكمه وسياسته صورة واضحة للخلافة الإسلامية الرشيدة الحكيمة، وتجسيد عملي لسيرة جده الإمام علي بن أبي طالب يفخر اليمنيون عموماً بل وكل المسلمين بما فيها من جهاد واجتهاد، وبصيرة نافذة وسداد، وقدوة واتباع، وتجديد وإصلاح، وحكمة وعدالة لا تفرق بين القريب والبعيد والعدو والولي والمسلم والمعاهد والرجل والمرأة، فالقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له.
وفي سياسة الإمام الاجتماعية والإقتصادية معالم بارزة ونقاط مضيئة، وكذلك في تعامله مع رعاياه من الموالين والمعارضين والأقليات الدينية، وفي قبوله برحابة صدر للاعتراض على مفردات سيرته، والجواب عنها بالحجة الواضحة ما ينبي عن أن سياسته أقرب إلى روح الديمقراطية والشورى، وإن لم تأخذ شكلها المعاصر الذي وصلت إليه في عصرنا، فذلك ما لا لوم عليه فيه ولا هو بمنتظر منه.
وتتميز شخصيته السياسية بنظرات ورؤى موفقة في الجانب المالي وسياسة التأديب لا تعوزه فيها الحجة من سيرة المصطفى والسلف الصالح وبالذات سيرة جده الإمام علي، والتي كان يراها ـ كما يراها كل منصف غيره ـ هي المثال لسياسة الحاكم المسلم العادل الرشيد بما فيها من شدة على النفس والأقارب وسماحة على الرعايا والأتباع. وسنرجئ الحديث المفصل عنها المدعوم بالشواهد إلى الدراسة بعون الله تعالى.
فكر الإمام الهادي
الحديث عن فكر الإمام بمعالمه ومميزاته حديث طويل لا تتسع هذه العجالة للتوسع فيه، غير أنه لا بد لنا من إشارة مجملة إلى معالمه إضافة إلى ما سبق من أصول فكره العقائدية.(1/24)


لقد قيل الكثير عن فكر الإمام الكلامي وانتمائه الفكري، كما قيل الكثير أيضاً عن فكر الزيدية الكلامي عموماً وصلته بمدرسة الاعتزال، حيث يحسبه كثير في علم الكلام على الفكر المعتزلي، وفي الفقه على مدرسة الرأي التي تزعمها الحنفية حتى لقد قال بعضهم بتتلمذ الإمام على أبي القاسم البلخي مع أن لي في هذا القول تحفظاً لا سبيل إلى شرحه الآن، وخصوصاً وأنه ـ حسب وجهة نظري ـ يستند إلى التوافق الملحوظ واللقاء في كثير من مفردات علم الكلام.
ولا أريد هنا أن أقف على النقيض من هذا الرأي عموماً ولا أتعجل الرد عليه، ولا أخوض في تفاصيل شواهد القبول والرفض، فذلك له موضع آخر غير أني أكتفي بالقول إن هناك صلة وثيقة وتوافق ملحوظ بين الإمام وبين المدرسة البغدادية الاعتزالية يراه من اطلع على تراث الإمام الكلامي ولكن مع صعوبة تحديد تاريخ بداية اللقاء والاتصال بين أعلام المدرستين في عصر الإمام وما قبله، وهل هي مجرد علاقة اتفاق عام أم هي تلمذة وتلق مباشر.
والأهم من كل ذلك عندي هو استيضاح شخصية فكر الإمام وتراثه الكلامي، وأهم ملامحه ومميزاته بعيداً عن دعوى الانتماء من عدمها، وهنا أقول: لئن كان أهل الكلام من المسلمين ينتمون عموماً إلى مدرستين أساساً: (( مدرسة النقل )) و (( مدرسة العقل )) فإن فكر الإمام أقرب إلى مدرسة العقل التي حمل لواءها مشائخ الاعتزال، ولئن كانت مدرسة الاعتزال قد انتهت إلى مدرستين أيضاً: (( مدرسة البصرة )) و (( مدرسة بغداد )) بما لكل منهما من خصائص ومميزات؛ فإن فكر الإمام أقرب إلى مدرسة بغداد، يعرف ذلك من له أدنى أنس بتراث الإمام الكلامي.
وبعد فلنعد إلى خصائص فكر الإمام الكلامي ومميزاته حيث نرى معلمين بارزين ينطلق منهما فكر الإمام هما:(1/25)

5 / 209
ع
En
A+
A-