والمعنى الثاني: فما يحييه وينشيه لجميع المخلوقين، مما يذرأ ويخرج للعباد، بالماء المبارك في الأرض ذات المهاد، من النخيل الصنوان وغير الصنوان، ذوات الطلع الهضيم، وغيرها من رزق الواحد الكريم، من النبات والفواكه والأشجار، التي تخرج وتحيى بما ينزل الله عليها من الأمطار، كما قال ذو المن المهيمن الجبار: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء: 30]، وقال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ}[الحج: 5]، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأُنَاسِيَ كَثِيْراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوْراً}[الفرقان: 48 ـ 50]. ومثل هذا مما ذكره الله أنه يحييه بالماء، مما يعاين ويرى، فكثير غير قليل، في واضح ما أنزل الله من التنزيل. فهذه أجسام تحيى بالماء ليست بذوات أرواح(1) جايلة في الأجسام؛ كما تجول الأرواح فيما خلق الله من الدواب والهوام، وإنما حياتها اخضرارها، ومكون الماء فيها وارتواؤها، [فسمى الله ما كان كذلك حيّاً كما ذكر سبحانه في كتابه، وكذلك](2) تقول العرب لما كان من الأشجار على ذلك، تقول: هذه نخل حيّة(3)، إذا كانت مخضرة روية، والله سبحانه فبريء من هذا المعنى، ومن مشابهة شيء من الأشياء.
والمعنى الثالث: فهو الذي لا يجوز غيره في الله ذي السلطان، وذي الجبروت والرأفة والإحسان، وهو أن معنى الحي: هو الذي يجوز منه الفعل والتدبير، وذلك فهو الله الحي الدائم اللطيف الخبير.
باب تفسير قوله السميع
__________
(1) في (ب): بأرواح.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ).
(3) في (ج): نخلة حية.(1/241)
والرد على من قال إنه سبحانه يسمع بحاسّة(1)
إن سأل سائل عما ذكر الله الكريم في القرآن من قوله: {وَهُوَ السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ} [البقرة:137. الأنعام:13، 115. الأنبياء: 4. العنكبوت: 5، 60]، فقال: ما معنى السميع عندكم، وما معناه في أصل قولكم؟ قيل له: يخرج ذلك على معان أربعة معلومة، معروفة عند جميع العرب مفهومة:
فأولهن: أن يكون معنى سميع هو (عليم)، والحجة في ذلك قول الرحمن الرحيم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}[الزخرف: 80]، والسر فهو ما انطوت عليه الضمائر ولم يبد، فذلك أسر السرائر، والنجوى فهو ما يتسارّ به ويخفيه المتناجون، من الكلام والمحاورة فيما يخفون ويكتمون. والسّر الذي في القلوب فلن يسمع؛ لأنه مستجن لم يبن فيشرح ويسمع، وإنما يسمع ما ترجمه اللسان، وباح به ضمير الإنسان. وإنما أراد ذو الجلال، بما قال في ذلك من المقال: التوبيخ لهم والإخزاء، والتوقيف لهم على ما يأتون به من الخطأ؛ إذ يتوهمون(2) أن الله تخفى عليه خافية، سراً كانت أو علانية، فقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}[الزخرف: 80]، يقول لا نعلم ولا نحفظ من أمرهم، ما يكتمونه من سرهم، ويُكنونه في غيابات ضمائرهم.
__________
(1) في (أ): سميع بجارحة.
(2) في (ب): يتهمون.(1/242)
والمعنى الثاني، في اسم الواحد البارئ: أن يكون السميع هو: (المجيب للداعين)، ممن دعاه من عباده المؤمنين. والحجة في ذلك فما حكى الواحد الكريم، عن نبيه زكريا وخليله إبراهيم، حين يقول زكريّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ}[آل عمران: 38]، وقول خليله إبراهيم الأواه الحليم: {إِنَّ رَبِّيَ لَسَمِيْعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم: 39]، يعني عليه السلام إن ربي لمجيب(1) لمن يشاء من الأنام. وفي ذلك ما تقول العرب، لمن سأل من الله أو طلب: سمع الله دعاك، أي أجاب الله طلبتك ونداك.
والوجه الثالث: قول القائل من الراكعين المصلين: (سمع الله لمن حمده)، ومعناه أي قبل الله ممن حمده، وأثاب على شكره من شكره.
فهذه الثلاثة الوجوه اللواتي يجوز أن يوصف بهن الرحمن، وهنّ فواضحات عند من عرف العربية والبيان.
__________
(1) في (أ): ربه مجيب.(1/243)
والوجه الرابع فلن يجوز على الواحد الجليل في شيء من الأقاويل، وهو موجود في المخلوقين، متعال عنه رب العالمين، وهو (الإصغاء بالأذان) والإنصات، لجولان(1) دواخل الأصوات، ومستقر مفهوم القالات(2)، فتعالى عن ذلك المهيمن الكريم، المتقدس الواحد الفرد العظيم. وكيف يكون سبحانه كذلك، أو يجوز المقال لمن قال فيه بذلك؟! وقد يسمع(3) قول ذي الجلال، وذي القدرة والمحال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 5]، والكفو فهو المثل والنظير، في الصغير كان أو في الكبير، ولو كان ذا جوارح لكان ذا أعضاء، ولو كان ذا أعضاء لكان جزءً فيه أجزاء، ولو كان جزء(4) لكان بلا شك جسماً، (ولو كان جسماً)(5) لجرت عليه الحوادث والأزمان، ولأشبه ما خلق من الإنسان، ولو كان كذلك لم يكن بخالق ولكان مخلوقاً؛ لأن كل جسم لا بد له من جاعل مجسّم، إذ لا بد لكل مجعول من جاعل، كما لا بد لكل مفعول من فاعل، ولكل مصنوع من صانع، ولكلِّ مقطوع من قاطع. فسبحان من ليس كذلك، ولا على شيء من ذلك، لا تحيط به الظنون، ولا يصفه الواصفون، إلا بما وصف به نفسه، من قوله هو وأنه(6) سبحانه كما قال في آخر الحشر: {هُوَ اللهُ الَّذِيْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ(7) هُوَ اللهُ الَّذِيْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوْسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهِيْمِنُ الْعَزِيْزُ الْجَبَارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ
__________
(1) في (ب): بجولان.
(2) في (ب): المقالات.
(3) في (أ): وقد سمع.
(4) في (ب) و(ج): أجزاء.
(5) سقط سهواً من (ب).
(6) في (ب): أنه.
(7) في الأصل لم يذكر إلا إلى هنا، ثم قال: إلى آخر السورة.(1/244)
مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ}[الحشر: 22 ـ 24].
وكذلك وصفه أنبياؤه ورسله، لمن حاربه وأنكره، وجحد نعمته وعانده. من ذلك قول الملعون اللعين فرعون، للنبيَّيْنِ موسى وهارون صلى الله عليهما حين دعواه إلى الإيمان بربه، والإقرار بوحدانيته، فقال مجيباً لهما، مكذباً لقولهما: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوْسَى}[طه: 49]؟ فقال موسى صلى الله عليه: {رَبُّنَا الَّذِيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه: 50]، فقال فرعون اللعين الأعمى: {فَمَا بَالُ الْقُرُوْنِ الأُوْلَى}[طه: 51]؟ فقال موسى صلى الله عليه: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّيْ فِيْ كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مِهَاداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيْهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوا أَنْعَامَكُمْ}[طه: 53 ـ 54](1/245)