أو أن يكون(1) رأيك ومقصدك، ومذهبك في ذلك ومعتمدك؛ ما خلق الله سبحانه وأعطى، وبث في الخلق وذرأ؛ من القدرة التي أعطاها جميع الخلق؛ من الاستطاعة التي بث في جميع أهل الباطل والحق، ليعبدوه بها ويطيعوه، ويستعملوها في طاعته ويرضوه، ثم هداهم النجدين، ومكنهم في ذلك من العملين، ولم يحُل بينهم وبين أفعالهم، ليجازيهم على جميع أعمالهم، ثم أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، ثم قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوْهُهُمْ فِيْ النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ 90]، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ}[الزلزلة: 7 ـ 8]، ثم قال من بعد الإعذار والإنذار، والدعاء والتبصير والإخبار: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِيْنَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيْثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً}[الكهف: 29]، فقصد للطاعة(2) قاصدون، ونكب عنها ناكبون، ورفض قوم الهوى وركبوا(3) التقى(4)، وترك قوم التقى واتبعوا الهوى، فحق للمطيعين الوعد من الرحمن بالجنان، ووجب على العاصين ما أوعد(5) من النيران، وفي أولئك(6) ومن كان من الخلق كذلك؛ ما يقول ذو السلطان والجبروت، وذو الرأفة والقدرة والملكوت: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ
__________
(1) في (ب): أو يكون.
(2) في (أ): الطاعة.
(3) في (أ): وارتكبوا.
(4) في الأصل: التقوى.
(5) في (ب): ما أوعدوا.
(6) في (ب): ذلك.(1/236)
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37 ـ 41]، وقال في من دعي إلى الحق فأبى، وأُمر بالطاعة فعصى، وآثر على الحق الهوى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ}[القصص: 50]، وقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيْهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 23]، وقال: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيْلاً}[الفرقان: 43]، فإن كنت تريد هذا القول فإنا به ـ ولله الحمد ـ نقول، ونشهد بالمنة فيه للعلي ذي الحول(1).
وإن كنت تريد بقولك وما تتكلم به من كلامك: إن لله قدرة سواه بها يقدر على ما يريد ويشاء، تعالى الله عن ذلك العلي الأعلى، فهذا ما لا نقوله، ولا نذهب إليه ولا نجيزه؛ لأنه من المقال قول فاسد محال؛ لأن القدرة لو كانت كذلك، تعالى الله عن ذلك، لم تخل من:
__________
(1) في (أ) و(ج): الطول.(1/237)
أن تكون قديمة أولية فتكون ثانية مع الله أزلية، وهذا فإبطال التوحيد، وعين المضادة لله الواحد الحميد، وإبطال القرآن، وتكذيب الرحمن؛ لأنه سبحانه يقول: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}[الحديد: 3]، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: 16]، فقال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ} فذكر أنه الأول قبل كل شيء، فلا يكون الأول إلا فرداً لا ثاني معه، كما لا يكون الآخر إلا الذي لا شيء بعده، وكذلك (الواحد)، فهو الذي لا ثاني معه، وذلك الله الجليل الرحمن، المتعالي عما يقول حزب الشيطان. فهذا من قولهم، فمعنى فاسد باطل، وعن الحق ـ ولله الحمد ـ حائل.(1/238)
أو أن تكون محدثة مُكوَّنة تُعلم، ويكون الله أوجدها من بعد العدم؛ فيدخل بذلك العجز على الله والتضعيف، فتعالى عن ذلك القوي اللطيف؛ لأن ضد القدرة العجز، فمتى عدمت القدرة ثبت العجز، فيلزم من قال بإحداث قدرة المهيمن القادر، أن يقول: إن الله كان عاجزاً غير قادر، فإن كان كما يقول الجاهلون، وينسب إليه الضالون، إنه كان ولا يقدر، حتى أوجد وخلق ما به قدر، فبماذا ويلهم خلق القدرة التي يذكرون، أنه خلقها من بعد العدم ويقولون، فإن كان الله أحدثها وهو غير قادر، وأوجدها وصورها وفطرها ـ وهي التي لا شيء يعدلها، ولا شيء من المجعولات إلا وهو دونها، إذ لا يوجد شيئاً ولا يخلق إلا بها ـ بغير ما قدرة منه عليها؛ فلقد كان فعله في غيرها أنفذ، ومراده في سواها أوكد، فلم(1) ويلهم خلقها وأوجدها، وهو يوجد مثلها بغيرها؟ فلقد كان عنها مستغنياً، وبما خلقها به مكتفياً مستعلياً. فتبارك عن ذلك ذو الجلال والجبروت الواحد الحي الصمد الذي لا يموت، القادر العالم بنفسه، البريء من شبه خلقه، الذي لم يزل ولا يزال، وهو الواحد ذو القدرة والجلال، الأول الذي لا ثاني معه، والآخر الذي لا شيء مثله(2).
باب تفسير معنى قوله الحي
إن قال قائل، أو سأل عن معنى الحي سائل. قيل له: الحي يخرج على ثلاثة وجوه:
__________
(1) في (ج): فبم.
(2) في هامش (ج): بعده.(1/239)
فمنهن: المتحرك من ذوي الحواس المفهومة، من الملائكة والجن والإنس وغير ذلك من الخلائق المعلومة وغير المعلومة، ذوات الأرواح الجايلة المستجنّة فيما خلق الله لها من الأبدان التي هي فيها مستكنّة، كما قال الله عز وجل: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٍ}[النور: 45]، فكلها حي ما دام فيه روحه، فإذا خرج روحه حلت به وفاته وموته، والله من ذلك سبحانه فبريء، وعن التجَسُّم(1) والزوال فمتقدس علي.
__________
(1) في (ب): التجسيم.(1/240)