وكذلك كلما أراد ذو الجلال، و(ذو)(1) القدرة والمحال، من عباده من جميع الأفعال، فإنما هو أمرٌ ونهيٌ من رب العالمين، يأمر به وينهى عنه جميع المخلوقين. فأما قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ}، فليس يتوهم إن ثمَّ مخاطبة من الله للعدم، وإنما ذلك منه سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه إخبار عن نفاذ قدرته، ومضي ما أراد من مشيئته، فتعالى من ليس له شبيه ولا عديل، ولا ضد(2) ولا مثيل، وهو الله الواحد الجليل، ذو القدرة والسلطان، كما قال سبحانه في وحيه، وذكر تعالى عن نفسه، فقال فيما نزّل من الفرقان، وبين لعباده من التبيان: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]، الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء، وجعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، مجيب المضطرين، وكاشف السوء عن المكروبين، والمهلك لمن يشاء من العالمين، والهادي في الظلمات، والرازق في كل الحالات، والبادئ(3) خلق المخلوقين، والمعيد لهم يوم الدين، والرازق لجميع عباده المرزوقين. وفيما ذكرنا من منته على خلقه؛ ما يقول سبحانه في محكم تنزيله ووحيه، ويحتج به على عباده: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُوْنَ أَمَّنْ يُجِيْبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ
__________
(1) ليس في (أ) و(ج).
(2) في (أ): شبيه ولا مثيل ولا ضد.
(3) في (أ): والباري للمخلوقين.(1/231)


أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيْلاً مَّا تَذَكَّرُوْنَ أَمَّنَ يَهْدِيْكُمْ فِيْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدِيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ}[النمل: 60 ـ 64].
والوجه الثالث: فهو إرادة المخلوقين، وهي بالنية والضمير، تعالى عن ذلك رب العالمين، وتقدس عن مشابهة المربوبين، وإنما يحتاج إلى النية والضمير، من لم يكن بعالم ولا خبير بعواقب أفعاله، ومتصرفات نوافذ أعماله، فهو ينوي ويضمر، ويدبر ما يورد ويصدر؛ لقلة فهمه بالعواقب، ولحاجته إلى المعين والأعوان والآلات في كل حال وأوان، إذا أراد أن يصرف فيه(1) من شأنه شأناً. فالحمد لله الذي بان عن مشابهة العجزة المربوبين، وتقدس عن مماثلة المتحرفين المتصرفين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين.
باب تفسير العلم في الله
والرد على من قال إن لله علماً سواه، به يعلم الأشياء
إن سأل سائل فقال: ما تقولون في الله ذي الجلال، ألَه علم؟ قيل له: إن معنى قولك: لله علم، يخرج على ثلاثة معان معروفة بينة، وكلها في اللسان فواضحة منيرة.
منهن: أن تكون تريد أن له علماً أنزله على المرسلين، وعلمه إياهم ومن تبعهم من المؤمنين، مثل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان الجليل، فنحن بذلك في الله نقول.
والثاني: أن تكون تريد أنه العالم بالأشياء(2)، الذي لا يخفى عليه سر ولا نجوى، وأنه يعلم ما لم يكن مما سيكون، كما يعلم ما قد كان من الفعل وبان، فكذلك قولنا في الله ذي السلطان.
__________
(1) في (أ) و(ج): يصدر فيه.
(2) في هامش (ج): المتفرد بالإماتة والإحياء.(1/232)


والثالث: أن تكون تقصد، وفيما ذكرت من قولك تعمد؛ أن لله علماً سواه، به يعلم في الحالات؛ ما يكون من المعلومات، وهذا في الله سبحانه فأحول المحال، وأبطل ما يقال به من المقال؛ لأنه لو كان كما تقول وتعبّر، أو كان على شيء مما تذكر وتسطّر؛ لم يخل من أحد معنيين، وكلاهما عن الله سبحانه زائلان:
إما أن يكون هذا العلم الذي شرحت، وقلت وادعيت وذكرت؛ علماً أزلياً، قديماً مع الله أوليّاً، فتثبت حينئذ الأزلية لشيئين، وتصح القدم لقديمين اثنين، وهذا فإبطال التوحيد، والإشراك بالله الواحد الحميد، ودفع ما قال في كتابه، الذي أنزله على خير عباده؛ حين يقول سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}[الحديد: 3]، وقوله سبحانه: {اللهُ خَالِقُ كَلَّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيْلٌ}[الزمر: 62]، وكيف يكون أولاً بديّاً؛ من كان معه في الأولية ثان؟! وكيف يخلق كل شيء، من قد كان معه قبل خلق كل الأشياء شيء، فتعالى عن ذلك الرحمن العلي(1).
__________
(1) في (أ): الرحيم.(1/233)


أو أن يكون هذا العلم الذي عنه سألت، وفيه تكمهت وقلت؛ شيئاً أوجده الخالق المصور من بعد، وأخرجه من العدم إلى الوجود الواحد المقدر؛ فيكون في هذا غاية التجهيل، لمن له القدرة المهيمن الجليل؛ لأنه إن كان إنما علم الأشياء، بما خلق من العلم وذرأ؛ فقد كان الله الواحد الكريم، من قبل إيجاد العلم غير عليم، ومتى زال عنه في حالة من الحالات، أن يكون عالماً بالسرائر الخفيات؛ أعقب ذلك الجهل أكبر الجهالات؛ لأن العلم والجهل ضدان مختلفان، وفي كل المعاني متباينان، ومن نسب إلى الله سبحانه الجهل في حالة من الحالات، أو نفى عنه العلم في وقت من الأوقات؛ فقد أشرك به جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، ومن أشرك به فقد جحده، ومن جحده فقد أنكره، ومن أنكره فلم يعرفه، ومن لم يعرفه فلم يعبده، ومن لم يعبده بعرفان، ويعرفه بغاية الإيقان، فهو كما قال سبحانه في واضح الفرقان، وفيما نزله(1) على نبيه من النور والبرهان، حين يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضْلُّ سَبِيْلاً}[الفرقان: 44]، وكما قال سبحانه: {وَلَقْدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُوْنَ}[الأعراف: 179]، صدق الله ورسوله، إن في خلقه لمن هو كذلك، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك، من غير أن يكون أدخلهم فيه، ولا جبلهم ـ تبارك وتعالى ـ عليه، بل هو منهم اكتساب، وقلة إنصاف منهم للألباب،ومكابرة للحق، ومعاندة للصّدق، واقتداء من الأبناء؛ بمن مضى من جهلة الآباء، فتبارك الله العالم بنفسه(2)، العادل في كل فعله، الذي لم يزل عالماً
__________
(1) في (أ) و(ج): فيما نزل.
(2) أي الذي ليس علمه سواه.(1/234)


خابرا، ولم يكن في وقت من الأوقات بشيء جاهلاً.
باب تفسير القدرة
والرد على من زعم أن لله قدرة سواه بها يقدر على الأشياء(1)
وكذلك قولنا لمن سأل عن قدرة ربنا، فقال: هل لله قدرة فيما(2) يقولون، وإليه تذهبون مما تتقلدون(3)؟ قيل له: إن معنى قولك هذا يحتمل ثلاثة معان مختلفات متفرقات(4)، غير مجتمعات في شيء من الجهات.
فمنهن: أن تكون تريد بسؤالك عن قدرة الرحمن، على ما خلق، وذرأ ذو المن والسلطان(5)، من عجائب ما خلق من المخلوقات، ومدبّرات ما دبّر وافتطر من المفطورات، من الأرضين والسماوات، وما سوى ذلك من المجعولات، اللواتي يشهدن لمدبّرهن بالحول والقوة، وينطقن له في كل أوان بالقدرة؛ فكذلك نقول، وإليه بلا شك نؤول.
__________
(1) في (أ): قدرة بها قدر على الأشياء.
(2) في (أ): كما.
(3) في الأصل: فيما تقلدون.
(4) في (ب): مفترقات.
(5) في (ب): ما خلق ذو المن والسلطان.(1/235)

47 / 209
ع
En
A+
A-