فإن قال قائل: فما دليلكم على أنَّ مِنَ الأشياءِ المشاهدةِ المعلومةِ(1) بدلائلها المفهومةِ، ما ليسَ هو بجسم معروف، فأَوْجِدُونَا ذلك في أي صنف شئتم من الصنوف؟
قلنا له: من ذلك أفعالُ العبادِ، وما يكون منهم من سوءٍ ورشاد، من الصَّدقة والقيام، والصلاة والصيام، وغير ذلك من حركات السحاب في السَّير، وما يُسْمَع من خفقان أجنحة الطير، وما تكثر لو شرحناه به الأقاويل، ويطول به الكلام والتأويل، وَكُلُّ ذلك من افعال الخلق فَقَدْ سمَّاه اللّه بأحق الحق شيئاً وأشياء، في قوله تبارك وتعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}[القمر: 52 ـ 53]، فسمَّى أفعالهم شيئاً وأشياء، وبَيَّن ذلك فيما نزل من النور والضياء، وهي أعراض ليست بأجسام، إذ لاتقوم إلا بالأجسام، وإِنَّما هي صفاتٌ ودلالاتٌ، وحركاتٌ وعلاماتٌ تتفرَّع من الأجسام غير متلاحقات، فهي أَشْياءٌ وليست بأجسام، والأجْسامُ أبداً فليسَت غير أجسام(2).
فإن قال: فما دليلُكم على أنَّ ما يكون من حركاتكم التي هي متفرعة من أجسامِكم غيرُ أجسامكم، وأنَّ أجسامكم هي غير حركاتكم؟
__________
(1) في(ب): لا يوصف ولا يدرك.
(2) في (ج): غير الأجسام.(1/226)


قلنا له: علمنا ذلك وفهمناه، ووقفنا عليه وعرفناه؛ لأنا نجد الأجسامَ تكون منها الحركات بالقعود والقيام وهي (1) مجتمعة متلاحقة، وتسكن وتهدأ وهي قائمة بأعيانها غير مفترقة، والحركات (2) غير متلاحقة ولامؤتلفة، بل هي متصرفة متباينة مختلفة، بعضها لا يلحق بعضاً، ولانعلم لها بعد خروجها طولاً ولاعرضاً، فاستدللنا بذلك على الفرق بين الأجسام والأفعال، في كلِّ ما حالٍ من الأحوال(3) ولذلك قلنا: إن كل جسم شيء، وأن ليس بجسم كل شيء، فلمَّا أَنْ خرج بعْضُ الأشياء من أن ينتظمه اسم الجسم، ولم يخرج الجسم من أن ينتظمه اسم الشيء في الحكم؛ قلنا: إن اللّه سبحانه وتعالى شيء ليس كسائر الأشياء، ولو كان كما يقول المبطلون إنه صورة أو جسم من الأجسام، لكان ذو الجلال والإكرام مشابهاً لما خلق من الصور والأجسام، ولَلَحِقَت به الفِكَرُ والأوهام، ولَجَرَت عليه حوادث الليالي والأيام، ولكان مضطراً محتاجاً إلى المكان، ولو احتاج إلى المكان لَخَلَتْ منه مواضع كثيرةٌ عظيمة الشأن، ولو كان ذلك كذلك ـ تعالى اللّه سبحانه ـ عن ذلك لَما كان كما قال، وذكر عن نفسه ذو الجلال والجبروت والمِحَال، حين يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَخَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المجادلة: 7]، ومن خلا منه مكان فقد حواه مكان، ومن حَوَاه مكانٌ فقد حُدَّ بالنواحي والحدود، وخرج بلا شك (4) من صفة المعبود، وصار إلى حد المحدودين، وانتظمه شبه المربوبين، فتعالى عن ذلك رب العالمين، وتقدس عن مشابهة المخلوقين.
__________
(1) يعني الأجسام.
(2) في (ب) و(ج): والأفعال والحركات. وهو عطف تفسير.
(3) في في (ج): من الحال.
(4) في (ب): وخرج بذلك بلا شك.(1/227)


فيا ويل المشبهين للرحمن، بما خلق وذرأ من الإنسان، أما سمعوه كيف نفى ذلك عن نفسه، فيما نزله من فرقانه ووحيه؟ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 1 ـ 5]، والأحد فهو: الواحد الذي ليس كمثله أحد، و (الصمد) فهو: الغاية والمقصد؛ الذي ليس من ورائه مقصد. والذي لم يلد ولم يولد فهو: اللّه الذي لم يلد فيكون ولده له شِبْهاً (1) ومِثْلاً، ولم يولد فيكون والده له بُدْءاً وأصلاً، بل هو خالق الوالد والأولاد، وفاطر السموات والأرضين ذات المهاد، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ} والكفؤ فهو: المِثْلُ والنَّظير، والعديل في الكثير كان أو اليسير، في بعض الأشياء كان أو في كلها، صغيرها وكبيرها، والأحد فهو: الواحد الذي ليس معه ثان.
فكيف يقولون ويلهم في اللّه بما لايعلمون؟! وقد يرون قوله في نفسه ويسمعون، فهم في قولهم وافترائهم كما قال الله ذو الجلال والجبروت، وذو العزة والعظمة والملكوت: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}[النحل: 62]، فنعوذ بالله من الحيرة عن الهدى، ومن التَّكَمُّه في الغي والردى، وحسبنا اللّه العلي الأعلى.
[باب القول في بعض صفات الفعل وكيفية اتصاف الله بها والرد على من زعم أزليتها]
إن سأل سائل مسترشد، أو قال متعنت قائل: أتقولون: إن الله ذا الجلال والإكرام، وذا القدرة والملكوت والإنعام، لم يزل متفضلاً جواداً كريماً قوياً محسناً غفوراً رحيماً؟
__________
(1) في (ب): شبيهاً.(1/228)


قيل له: إن هذا الذي ذكرت، ممّا عنه سألت وسطرت؛ أفاعيل من الواحد الجليل، وقد كان سبحانه وجل عن كل شأن شأنه ولما يفعل الجود والرحمة، والعفو والإحسان والنعمة، ثم فعلها، وبعد العدم أوجدها. ونحن فنقول: لم يزل المتفضل الجواد الكريم، والمحسن الغفور التواب الرحيم، فنُدخل في ذلك الألف واللام؛ ليكون قولنا وخبرنا عن الواحد الرحمن، ذي الجلال والسلطان، ولا نطلق القول عليه(1) والكلام؛ في ذلك بغير الألف واللام؛ لأن في ذلك توهيم قدم الخليقة من المرحومين، وتثبيتاً لأزلية التوابين المربوبين.
فإن قال: أفتقولون: إنه كان غير تواب رحيم، ولا متفضل محسن كريم؟ قلنا له: لا نقول ذلك؛ لما فيه من توهيم البخل والفظاظة وضد الإحسان، والله فبرئ من ذلك له الأسماء الحسنى في كل شأن.
فإن قال: أفتقولون: إنه لم يزل صمداً؟ قيل له: نقول: لم يزل الواحد الصمد، ولا نطلق(2) القول بغير الألف واللام؛ لأن الصمد عند أهل المعرفة والتمام هو الغاية المعمود، والنهاية المقصود، الذي ليس من ورائه مصمد، ولا يوجد بعده للمطلوبات مقصد، الذي تقصده البرية في شأنها، وتضرع إليه في كل أسبابها. وفي إطلاقنا ذلك على ما قلت، وقولنا فيه بما ذكرت؛ توهيم أن البرية الحادثة الفانية، من الخليقة الضارعة لم تزل، وهذا فاحش من المقال، مستنكر في كل حال. ولكن نقول: لم يزل الصمد، وكذلك نقول: لم يزل المشكور المحمود، ولا نطلق القول بلا ألف ولا لام؛ لما في ذلك من توهيم السامع من الأنام؛ من أنه لم يزل الحامد أزلياً مع المحمود، والشاكر قديماً مع المشكور.
__________
(1) سقطت عليه من (أ) و(ج).
(2) في (أ) و(ج): ولا نطلق في ذلك.(1/229)


فإن قال أحد من أهل الضلال: أفتقولون: إنه كان في زمن من الأزمان؛ غير محمود ولا مشكور في كل شأن؟ قلنا له: لا نطلق ما تقول؛ لما فيه من توهيم الذم في اللفظ والقول، ولكن نقول: لم يزل المحمود المشكور ذو الطول؛ لأن الحمد لا يكون إلا من حامد بالحمد ناطق، والشكر لا يكون إلا من شاكر راتق فاتق(1)، فمتى أطلق القول، في الله ذي الجلال والحول، بأنه لم يزل محموداً مشكوراً، فقد أثبت معه أزلية الحامد الشكور، وفي هذا إبطال التوحيد، الذي لا يكون إلا لله الواحد الحميد، الذي لم يزل من قبل أن يوجد كل حامد شاكر، أو ضال مخالف على الله كافر.
[باب تفسير معاني الإرادة في الله عز وجل]
إن(2) سأل سائل مسترشد أو ضال، أو قال متعنت في المقال، عن إرادة الله تبارك وتعالى فقال: ما هي، وعلى أي الوجوه هي؟ قيل له: إن الإرادة تخرج على ثلاثة معان، وكلهن معروف في اللغة جار:
فأولهن: إرادة الله لا يجاد المخلوقين، وفتق رتق السماوات والأرضين، فلما أراد ذلك كان بلا كلفة ولا عون أعوان، إذا أراد شيئاً أوجده، وإذا أوجده فقد أراده، فمشيئته إرادته، وإرادته مشيئته، ليس له مثل ولا نظير، وهو الواحد اللطيف الخبير.
والثاني: فهو إرادة الأمر، وهو قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِيْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كَلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ}[يس: 82 ـ 83]، ومن ذلك قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]، يقول سبحانه: يأمركم بما فيه التسهيل لكم، والتيسير عليكم.
__________
(1) في (ب): رايق فاتق. والصواب: ما أثبت، هو كناية عن فعل الشيء وضده.
(2) في (ج): بسم الله الرحمن الرحيم إن.(1/230)

46 / 209
ع
En
A+
A-