وشملت الجوارح به نعمة جاعلها، وألبس أرجآء السمع أذناً لاستقرار جولان الوَحَى(1) في محاله، وإزاحة الشك النازل به وإبطاله. ثُمَّ عطف أطراف غرضوفهما(2)، على البواطن من حروفهما(3)؛ للحوق جولان الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن درك القالات، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات، وجعل فيه سبحانه كل ما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات.
ثُمَّ علق في صدره قلباً، وركب فيه لباً، ثُمَّ جعله وعاء للعقل الكامل، وحصناً للروح الجايل، حفظه عن مزدحمات الأعذية بانحطاطه، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه، فَقَرَّ بتدبير الخالق في أحصن حصن، وأبعده مما ركب وجعل في البطن(4). وفوقه من الصدر هوآء، وتحته أدوات ومعآء، فهو مقر لثابت الأنفاس، متملك لخدمة جميع الحواس، إن شاء شيئاً شِئْنَه، وإن أباه بلا شك أَبَيْنَه، به تنزل مدلهمات الغموم، وإليه مأوى نوازل الهموم، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور، وبقبوله له تكمل الغبطة في كل الأمور، جعله الله آلة للفطن والفكرة، وفطره على ذلك من الفطرة، وذلك قول الرحمن، فيما أنزل من الفرقان: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46]، وقال سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، يقول: إن فيما تقدم من فعلنا بمن مضى، ممن نزل عليه ما نزل من عذابنا؛ لذكرى لمن كان له قلب يعقل به ويفهم، ويتدبر ما يرى من فعلنا فيعلم.
__________
(1) الوحى كالوغى: الصوت.
(2) الغرضوف والغضروف: العظم اللين الذي يؤكل خلاف الشديد.
(3) يعني أطرافهما.
(4) في (أ) و(ج): بطن.(1/221)


وقد يحتمل ويكون معنى قول الرحمن، فيما نزل من واضح النور والفرقان(1): {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}[المؤمنون: 14]، هو ما ميز من خلق الأنثى والذكر، فيكون لما أن كسا العظام لحماً؛ جعله من بعد ذلك ذكراً أو أنثى، فحينئذ بقدرة الله تمت السلالة(2)، وفيما قلنا به من الخلق ما يقول الله عز وجل في سورة القيامة من خلق الزوجين، فهذا عندي والله أعلم فأشبه القولين.
ثُمَّ نرجع من بعد شرحنا للواحد المؤتلف، والواحد المنتقل المختلف ـ والله فبريء من ذلك، تبارك ربنا وتعالى أن يكون كذلك ـ فنقول: إنَّه قد يخرج معنى قول القائل واحد في اللسان، وفيما يقال به فيه من المعنى والبيان؛ أن يكون الواحد من الإثنين المتشابهين في المعنى، المتقاربين في الصفة والإستواء، فيقال هذا وهذا مثلان، وهما إذا ذكرا أو قيسا شيئان(3)، وهما في التشابه و الاتفاق؛ واحد بغير ما افتراق، والله سبحانه فعن مشابهة الأشياء أو مشاكلتها فبريءٌ، وعن مناظرة المجعولات فمتعال عليٌّ.
وقد يخرج معنى الواحد ـ فيقال به فيه، ويستدل به في لغة العرب عليه ـ على معنيين:
أحدهما: البائن بالسؤدد والإفضال، فيقال: هذا واحد في فعله من الرجال، إذا فعل مالا يفعله غيره، ويقصر عنه آله وقومه.
والآخر: إثبات الواحد ونفي الثاني، إذ الواحد لا أول قبله، والثاني فقبله عدد وبعده.
ويخرج معنى قولنا: الواحد على أنَّه لا شبيه له ولا نظير، ولا كفؤ صغير ولا كبير، وهو الله الواحد الأحد الخبير.
فالله سبحانه هو الواحد في فعله، الذي لم يصنع أحد كصنعه، الخالق الذي لا خالق سواه، كما قال تقدست أسماؤه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
__________
(1) في (ب): فيما قال في واضح ما نزل من النور والفرقان.
(2) السلالة: النطفة، لأن الإنسان استل منها. وهي في نسخة (أ): السلامه.
(3) في (ب): إذا نكرا.(1/222)


وهو الواحد الذي لم يكن من شيء، وهو الموجد لكل شيء، لم يكن سبحانه من أصل، ولا يكون منه أبداً فصل، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 4ـ5]. الواحد في الربوبية والقدرة، والعزة والملك والكبرياء والعظمة، فكل قادر فمقدور عليه، وكل ملك فملكه مسلوب(1) من يديه، وكل عزيز فأَيْسَرَ العزة نال(2)، غير الله الواحد ذي الجلال، وذي العز الكامل الدائم، والملك السرمد الباقي الدائم، القادر فلا يقدر عليه، العادل فلا ظلم لديه، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرٌ}[الشورى: 11]، لا تحيط به الأقطار، ولا تجول بتحديدٍ فيه الأفكار، ولا تنتظمه الصفات والأخبار، ولا تدركه سبحانه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، القائم سبحانه بنفسه، الذي لا قوام لغيره إلاَّ به، لا تجري عليه الأزمنة، ولا تحويه الأمكنة، وكيف تجري الأزمنة أو تحوي الأمكنة من كَوَّن كلَّ مكانٍ، وأوجد بعد العدم كل زمان؟ وهو الله الواحد الرحمن، سبحانه وتعالى ذو المن والإحسان.
بابُ الرَّد على من قال: إن اللّه جسم، وجواب من سأل عن معنى قول الموحدين: (إن اللّه شيء لا كالأشياء)
إن سأَلَ من الخلق سائلٌ، أو تعنَّتَ مُتَعِّنتٌ قائل، فقال: ماذا تقولون، وإلى أي معنى من المعاني تذهبون؛ في اللّه ذي الجلال، وذي الجَبَرُوت والمِحَال، أَشَيءٌ هو تقولون، أم غير ذلك تزعمون؟
__________
(1) في (ج) و(ب): ملك فمسلوب ملكه.
(2) في (ب): فأيسر العزة بالٍ. كذا.(1/223)


قلنا: بل نقول: إن ربنا ـ جل وتقدس إلهُنا ـ شيءٌ لا كالأشياء، سبحانه تبارك وتعالى، لا يشبهه ولا يدانيه شيء، ولم يزل سبحانه قبل كل شيء، وهو المُشَيِّئُ لكل الأشياء، المتفرد بالخلق والرزق والإماتة والإحياء، الموجد لما يُتَوهَّم، أو يُرَى بالأعين وغيرها من الحواس، من الذوق والشم والسمع والحواس(1)، لا تحيط به الأفهام، ولا تقع عليه بِتَحْدِيدٍ الأوهامُ(2)، وهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في باطنيته، والباطن في ظاهريته، المنفرد بالوحدانية، البائن بالأزلية، الشاهد الداني في عُلُوِّه، البعيد النائي في دُنُوِّه، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد: 3]،وكذلك ربنا الرحمن الرحيم، يعلم ما يكون قبل كينونته، كما يعلمه من بعد بَيْنُونَتِهِ، عِلْمُهُ بما اسْتَجَنَّ(3) في قعور البحار، وما انْطَوَتْ عليه الجَوَانِحُ من ضمائر الأسرار؛ كَعِلْمِهِ بما ظهر وأَنَار؛ مِنْ واضح القول والإخبار، الصَّمد الذي لا غاية بعدَهُ يُصْمَد(4)، الواحد الذي ليس كمثله أحد، لم يكن له قبلٌ ولا بعد، ولا يكون له أبداً مِثْلٌ ولا نِدٌّ، مبتدئ(5) الأحياء، وباعث الموتى، ووارث الآخرة والأولى.
فإن قال قائل: فماذا تريدون، وما إليه تذهبون بقولكم: شيء؟
قلنا(6): نريد بقولنا شيء: إِثْبَاتَ المَوْجُود، ونَفْيَ العدم المفقود؛ لأن الإثبات أن نقول: شيء، والعدم أن لا نثبت شيئاً؛ لأنَّ من أثبت شيئاً؛ فَقَدْ أثبت صانعاً مُدَبِّراً، ومن لم يثبت شيئاً؛ كان في أمره ذلك مُتَحيِّراً، ودخل عليه ضد الإقرار، وهو النفي والشك والإنكار.
__________
(1) في ب: والجواس بالجيم.
(2) في ج: ولايقع عليه التحديد بالأوهام.
(3) استجن: استتر وخفي.
(4) الصمد: المقصود المعتمد.
(5) في (ب): مبيد.
(6) في (ب): قيل له.(1/224)


فإن سأل وقال(1)، وتردد في الضلال؛ فقال: فلِمَ لا تقولون، وعلى ما قلتم تقيسون؛ فتقولون: إنَّه جسم لا كالأجسام، فيكون هذا يخرج على ما يخرج عليه أول الكلام؟
قلنا له: ليس الصَّوابُ كالمَحَال، وَهَذا في اللّه فأَحْوَلُ المَقَال؛ لأنه ـ وإن اشتبه عندك فيما ترى ـ مخالف لما تقدم من الشيء في كلِّ معنى؛ لأنا نرى الجسم أبداً شيئاً مُتَجَسِّماً، ولسنا نرى كلَّ الأشياء كائناً جِسْماً، فالشَّيءُ يعم الأشياء كلها، والجِسْمُ فإنما يقع على بعضها، فلما اختلف معناه في الخاص والعام، اختلف جميع قياسه في الكلام. وكذلك كلما قِيْسَ أو ضرب له مثل(2)، فإنما يقاس ويُشَبَّه بما كان مِثْله في كلِّ مَا سَبَبٍ وحَالْ، كما يُحْذَا المِثَالُ على المثال، فأما الضد فلا يقاس بضده؛ إذ حَدُّه على خلاف حَدِّه.
وفيما قلنا به ـ من الشيء الذي لا كالأشياء ـ ما يقول اللّه الواحد الأعلى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إليَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 19]، فَذَكَر ـ سبحانه وتعالى عما يصف المبطلون، ويقول عليه به الملحدون ـ أَنَّه شيء موجود، لا يذكر ولا يوصف بحد من الحدود، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، أَلا ترى أنَّ جميعَ أهل الإسلام، الذين هم على دين محمد عليه السلام؛ يقولون لمن اتهموه بسَخَافة دين، أو قِلَّةِ خشْيَةٍ أو يقين: ما تعبد من شيء، ولا توقن بشيء، يريدون ما تعبد الذي يعلم أمرك، ويوفيك أجرك.
__________
(1) في (ب): فإن سأل سائل وقال.
(2) في (ب) و(ج): مثَله.(1/225)

45 / 209
ع
En
A+
A-