فقال: لا(1) فَضَحْتُم أباكم، وإنما أراد: فضحتم أباكم، فأتى بـ (ما)(2) صلة لغير معنى.
وقال الله ذو الجبروت والإنعام، يحكي عن نبيه عيسى عليه السلام، في قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ}[المائدة: 116]، يعني صلى الله عليه: تعلم غَيْبَ أَمْرِي، وعلانيتي وسري، ولا أعلم ما غاب من فعلك، ولا أطَّلِعُ إلاَّ على ما أطلعتني عليه من وَحْيِك.
فهذا معنى ما عنه سألت، لا ما إليه من فاحش المقال ذهبت، في الله رب الأرباب، ومُسَبِّبِ ما يشاء من الأسباب.
__________
(1) في (ب) و(ج): لا ما فضحتم.
(2) في هامش (أ): بـ((لا)).(1/211)
بل كيف يزعم المشبهون، ويقول على الله المبطلون: إن الله جسم وصورة،وإن فيما ذكروا من الصورة له نفساً تَجُول فيه من مكان إلى مكان؛ وقد يسمعون ويرون ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيه من الوحي الكريم، حين يقول جل جلاله، عن أن يحويَهُ قول أو ينالَهُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]؟، فماذا(1) يقولون، لو كانت نفساً كما يزعمون ـ تعالى عن ذلك الرحمن، وتقدس ذو العرش والبرهان ـ: أتموت وتفوت، أم لا تموت ولا تفوت؟ فإن قالوا: تموت كفروا، ومن الإسلام خرجوا، وعند أنفسهم ـ فضلاً عن غيرهم من أضدادهم ومناظريهم(2)ـ افتضحوا، وإن قالوا: لا تموت ولا تفوت. قيل لهم: من أَيْنَ قلتم ذلك، وكان عندكم كذلك؛ وَقَدْ تسمعون ما حتم به الرحمن، على كل نفس في القرآن، وَلَم يستثن في ذلك نفساً له ولا لغيره، كما استثنى في غير ذلك من قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص: 88]، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: 26ـ27]، فاستثنى عند هلاك الأشياء، أنَّه الباقي الوارث لكل الأحياء، واستثنى عند الزوال والفنآء؛ وجهه ذا الجلال(3) والبقاء. والوجه من الرحمن؛ فليس غيره تعالى ذو العزة والسلطان، ووجهه في اللغة والبيان؛ فهو ذاته بأبين البيان، فذاته وجهه، ووجهه سبحانه ذاته، ليس بذي تحديد ولا أعضاء، وهو الله الواحد العلي الأعلى، ولم يستثن عند هلاك الأنفس وموتها؛ نفساً لخالقها ومدبرها ومشيئها(4).
__________
(1) في (أ): فما.
(2) في (أ): ومناظيرهم. كذا.
(3) في (ج): ذو الجلال، وتحمل على أنها فاعل، واستثنى إن لم يتحمل ضميراً وإلا فبدل عنه.
(4) شيئها: جعلها شيئاً وأوجدها بعد عدمها.(1/212)
أفأنتم في قولكم أعلم بالله منه بذاته؟ إذ قد نسبتموه إلى غير ما نسب إليه نفسه من صفاته؟ ولو كان كما تقولون، وإليه في قولكم تذهبون؛ إذاً لاستثنى نفسه من الأنفس التي تموت وتفنى، كما استثنى بقاءه من الأشياء التي تزول وتبلى، تعالى الله عن ذلك الرحمن الرحيم، وتقدس الله الواحد الكريم.
فمن أين قلتم: إنها له نفس في صورة تبقى، دون الأنفس التي حتم الله عليها بالفناء؟ أوجدونا بذلك حجة وتبياناً، واشرعوا لنا فيه قولاً وبرهاناً؛ من الكتاب والتنزيل، والسنة والتأويل، فلا تجدون ولله الحمد حجة ولا قولاً، ولا تستطيعون إلى إثبات باطل سبيلاً. وكيف يكون ذلك، أو تقدرون على شيء من ذلك؛ والله ذو الطول. فيما نزل من الفرقان يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 18]؟! فإن أنصفوا؛ كانوا من قولهم خارجين، و إلى قول المحقين راجعين، وإن كابروا وجحدوا، وتمردوا وعتوا؛ كانوا عند جميع الخلق مفتضحين، وبضد الحق متعلقين، والحمدلله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
باب تفسير قول الله سبحانه:
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}
والرد على من قال: إن لله وجهاً وإنه صورة
يقال لأهل الجهالة والضلال، فيما يقولون به في الله ذي الجلال، ويصفونه به من الكذب والمحال، وينسبون إليه من فاسد المقال: ماذا تقولون في الله ربكم وما تعتقدون، إذ أنتم في قولكم تزعمون أن لربكم وجهاً كالوجوه التي تعقلون، وأنه ذو أبعاض(1) فيما تصفون، إذ يقول(2): {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]؟.
أفتقولون: إنَّ ما سوى وجهه من سائر أعضائه التي تذكرون تبقى معه، أم تفنى دونه؟
__________
(1) الأبعاض: الأجزاء.
(2) سقط من (ج): إذ يقول.(1/213)
فإن قالوا: تبقى معه، قيل: وكيف يكون ذلك كذلك، ولم يذكر البقاء لشيء من ذلك؟ فلقد قلتم بخلاف قول العلي الأعلى، إذ لم يحكم(1) لغير الوجه بالبقاء، وأنتم تقولون: إنَّه يبقى مع الوجه غيره من الأعضاء، فلقد بقى مع الوجه إذاً شيء وأشياء، وإن قالوا: لايبقى مع الوجه غيره من الأعضاء؛ قيل لهم: فقد دخل على الله سبحانه في قولكم الزوال والفناء، والإمحاق(2) والذهاب والهلاك والبلى، إذ بعضه في قولكم يموت، ويزول ويتغير ويفوت، فلقد أدخلتم على خالقكم الصفات الناقصات الزائلات، وأزحتم عنه ما وصف به نفسه من البقاء في كل الحالات.
فلا يجدون بداً من أحد هذين المعنيين المحالين، الباطلين في الله المخالفين، الذين يكونون بانتحال أحدهما بالله كافرين، وفي دينه فاجرين، ولجميع أهل الإسلام مخالفين، ومن الإيمان والحق خارجين؛ أو يرجعوا(3) إلى قول المحقين، ويتابعوا(4) ـ في مقالتهم ـ الموحدين، فيقولوا(5) كما يقولون: إن معنى الوجه في الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه هو الله، وإنه ليس بذي أعضاء، ولا أبعاض ولا أجزاء. وذلك فمعروف في العربية، يعرفه كل من فارق لسان الأعجمية، من ذلك ما تقول العرب: هذا وجه بني فلان، تريد أنَّه المنظور إليه منهم في كل شأن، وأنه رجلهم وسيدهم، والقائم في كل أمر دونهم. وتقول العرب: هذا وجه المتاع، تريد بذلك أنَّه أفضل ما يبتاع، وتقول: هذا وجه الرأي أي محضه وصدقه، وصوابه في كل أمر وحقه(6)، لا أن له وجهاً كما يعرف من الوجوه المخلوقة في البشر، المجعولة المقدرة، المركبة المصورة.
وفي ذلك وما كان كذلك ما يقول الشاعر:
__________
(1) في (ب): إذ قلتم إنه يحكم لغير الوجه بالبقاء.
(2) الإمحاق مخففاً: الهلاك، والإمحاق مشدداً: الذهاب وهما متقاربتا المعنى.
(3) في (ب): أو يرجعون.
(4) في (ب): ويتابعون.
(5) في (ب):فيقولون.
(6) انظر لسان العرب مادة: وجه.(1/214)
وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه…وينجو بإذن الله من حيث يحذر
فقال: من وجه أمنه، وليس للأمن وجه ولا صورة، وإنما أراد أنَّه يعطب(1) من الوجوه المأمونة عنده المحمودة.
وقال آخر:
أسلمت وجهي لمن أسلمت…له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت…له المزن تحمل عذباً زلالا(2)
وقال آخر:
أضحت وجوههم شتى فكلهم…يرى لوجهته فضلاً على الملل
فقال: (أسلمت وجهي)، وإنما أراد: أسلمت ديني، واستسلمت لربي، وقصدت خالقي بكل عملي، لا أنَّه أسلم وجهه دون قلبه، ولا قلبه دون عمله، ولا عمله دون نفسه وقوله.
ومن الحجة فيما قلنا به من البيان، من أن وجهه هو لا بعضه في قيم اللغة واللسان، ما يقول الشاعر:
إني بوجه الله من شر البشر…أعوذ من لم يعذ الله دمر
وقال آخر:
أعوذ بوجه الله من شر معقل… إذا معقل راح البقيع وهجرا
__________
(1) العطب محركاً: الهلاك.
(2) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، أحد الحكماء، لم يدرك الإسلام ولكنه كان يكره عبادة الأوثان ولا يأكل مما ذبح عليها، رحل إلى الشام باحثاً عن عبادات أهلها فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية فعاد إلى مكة يتعبد على دين إبراهيم، فأخرجته قريش من مكة، وكان يكره وأد البنات ويأخذهن من عند آبائهن فيربيهن ثُمَّ يعرضهن بعد أن يترعرعن على آبائهن، فإن أبوا زوجهن الأكفاء، رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وسئل عنه بعدها فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده، توفي قبل البعثة بخمس سنين لسبع عشرة سنة قبل الهجرة، له شعر قليل.الأعلام3/60.(1/215)